محمد مندور عواصف الفكر والعودة للثوابت

محمد مندور.. عواصف الفكر والعودة للثوابت

محمد مندور.. عواصف الفكر والعودة للثوابت

 العرب اليوم -

محمد مندور عواصف الفكر والعودة للثوابت

بقلم : فاروق جويدة

 لم يكن من حظه أن يكون أحد نجوم كوكبة الثلاثى الكبير: طه حسين والعقاد، وتوفيق الحكيم.. ومع ذلك، دخل السباق معهم واختلف مع الكثير من مواقفهم، واستطاع أن يسحب الأضواء فى مناطق تفرد فيها أستاذًا وصاحب رؤية نقدية.. وقبل هذا، كان مجددًا وهو يتنقل فى حدائق المعرفة.. إنه شيخ النقاد وواحد من أصحاب الفكر، وأستاذى فى كلية الآداب، قسم الصحافة، د . محمد مندور..

ـــــ كان يكفى أن تهتز جدران المدرج 43 عندما يدخل د.مندور فى التاسعة صباحًا، ولا يخلف موعدًا.. كانت سنوات العمر قد تركت له نضارة فى الفكر وساحة للحوار.. كان يتحدث فى كل شيء، وكانت محاضرته سباحة فكرية ممتعة وعميقة بين الأدب والسياسة والفكر والذكريات.. وفى أحيان كثيرة، كان يختار مقالًا لأحد الكتاب الكبار ويعيد صياغته ويقول: «هكذا يكتب المقال»..

ـــــ كان ابنًا وفيًّا لمدرسة طه حسين، وجمع بينهما عشق باريس الفكر والثقافة والتكوين.. ورغم أن طه حسين كان صاحب الريادة، ذهب د. مندور فى بعثة علمية إلى فرنسا ليحصل على درجة الدكتوراه وهناك، ترك عقله وحيرته وأفكاره لكل التوجهات، ولم يتوقف عند جانب من جوانب المعرفة، بل انطلق فى آفاق الحياة والثقافة الفرنسية.. وكان هذا حال كوكبة كبيرة من كتّاب ومبدعى مصر الذين بهرتهم الثقافة الغربية، ابتداء بلطفى السيد ومحمد عبده وهيكل باشا ولويس عوض وزكى نجيب محمود وتوفيق الحكيم والمعلم الأكبر طه حسين.. وانضم إلى هذه النخبة د. محمد مندور.

ـــــ عاد مندور من باريس حاملاً أحلامًا كثيرة أن يكون كاتبًا وناقدًا وأستاذًا وصاحب موقف.. فى سنوات الدراسة فى باريس، داعبته فى مرحلة الشباب رومانسية الشعر الفرنسي، وأطلق عليه «الشعر الهامس»، وكان هذا يعنى تحفظه على الصوت والإيقاع العالى فى مدرسة الإحياء وما بعدها.. وضع شوقى فى مكانته الخاصة، وحين عاد إلى مصر، بدأ ينشر دعوته إلى قصيدة يهمس بها الشاعر إلى نفسه، وكانت مدرسة أبوللو أقرب المدارس التى رحبت بهذا الناقد المتفرد.. وكان من هذه المدرسة ناجى وعلى محمود طه، وإن كان العقاد قد أنشأ مدرسة أخرى هى «الديوان» مع إبراهيم المازني.. بدأت مشوارها بالهجوم على شعر شوقي، ووضع مندور ثوابت الشعر الهامس البعيد إلى حد ما عن صخب الخطابية والصوت العالي.. وجدت دعوة مندور صدى كبيرًا، خاصة أن ثورة يوليو انطلقت تحمل أفكارًا وواقعًا جديدًا يدعو للعدالة والاشتراكية وحقوق الإنسان.. استهوت هذه الأفكار أحلام مندور فى التغيير، واقترب من فرق اليسار، ووجد اليساريون فيه دعمًا كبيرًا.. وهنا دخل مندور مرحلة جديدة اتسعت فيها الرؤية لتجمع بين تحولات السياسة والواقع الاجتماعى الجديد الذى تسعى إليه ثورة يوليو.

ـــــ ورغم أن مندور كان ابنًا للثقافة الفرنسية، فإن وجودية سارتر لم تتركه، وبدأ يطوف حولها، واقترب كثيرًا من أنصار ومؤيدى التوجهات الاشتراكية، وإن لم يقع فى فخ الماركسية ورأس المال وملايين الشباب الذين اجتاحت عقولهم فى كل بلاد العالم.. لكن لم يستمر شهر العسل طويلاً بين ثورة يوليو واليسار المصري، وسرعان ما ألقت بهم الثورة فى السجون.. ورغم ذلك، عاد مندور إلى قواعده سالما، فلم يدخل السجن.. كانت علاقته باليسار شيئًا عابرًا، ولكنه عاد إلى عشقه الأكبر: ناقدًا وأستاذًا.. واستطاع أن يقيم مدرسة نقدية تحمل اسمه، وتضم نخبة من نقاد مصر الكبار بلا منازع.. أصبح مندور شيخ النقاد وعلامة فى تاريخ النقد الأدبي، وتنقل بين مناطق كثيرة، منها السياسة والاجتماع.. كان من دعاة الإصلاح والعدالة.. قدم د. مندور سلسلة من الكتابات النقدية جمعت كل جوانب الثقافة المصرية كان من أبرزها الشعر المصرى بعد شوقي، النقد والنقاد المعاصرون الديمقراطية السياسية، صفحات من تاريخ مصر المعاصرة الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما فى الأخلاق والضمير والمسرح النثرى وكان رأيه أن المواطن الذى لا يهتم بسياسة وطنه ولا يبدى فيها رأيا هو المواطن الفاسد بل الكائن الطفيلى الذى لا يحق له أن يتمتع بخيرات وطنه وشرف انتسابه له

ـــــ اقتربت من د. محمد مندور فى سنوات الدراسة بكلية الآداب، قسم الصحافة.. كانت محاضراته حوارًا فكريًا راقيًا وعميقًا.. طلب منا يومًا إعداد بحث مكتوب عن شخصية صحفية، واخترت يومها جمال الدين الأفغانى وصحيفته «العروة الوثقى».. قضيت ساعات فى مكتبة كلية الآداب، وهى من أعرق مكتبات مصر وأكثرها ثراء.. انتهيت من كتابة البحث، وقلت للدكتور مندور : «أعددت بحثى عن الأفغانى وسوف أتحدث عنه مرتجلاً».. وأعطيته البحث مكتوبًا.. بدأت أتحدث عن جمال الدين الأفغانى وأخذت وقت المحاضرة كاملاً.. وقبل أن ينهى د . مندور المحاضرة، قال: «فاروق جويدة أخذ الدرجة النهائية فى أعمال السنة».. بعد يومين، تشجعت ودخلت على د. مندور فى مكتبه.. فرحت كثيرًا عندما عرف اسمى وظللت واقفًا.. قلت : «أنا أكتب الشعر وهذه قصيدة أتمنى أن أسمع رأيك فيها».. كنت سعيدًا أن د. مندور شخصيًا يقرأ قصيدتي.

أخرج قلمه وبدأ يغير بعض الكلمات، ويشطب البعض الآخر، ويحذف أبياتًا، ويغير القافية.. ويومها أعطانى درسًا فى كيفية التعامل مع الكلمة والقافية والوزن.. أخذت قصيدتى وقد بقى منها بعض الأبيات.. كان أول درس فى حياتى كيف أتعامل مع الكلمة ..

ـــــ من وقت لآخر، كنت أتسلل إلى د . مندور فى مكتبه، وهو يشرب القهوة، وأقول له : «ما أجمل أن تشرب القهوة مع قصيدة لفاروق جويدة».. كان يبتسم وفى شموخ يسمعني.. كنت أتردد كثيرًا على د. مندور، وأشعر بشيء من الزهو أننى فى حضرة هذا الرمز العظيم.. كثيرًا ما كنا نحاوره ونختلف، وكان يسمح لنا بالحوار ويسمع منا، وكان لا يبخل برأى أو نصيحة.

بقى د.مندور بتواضعه وأبوته يمثل نموذجًا فى خيالى للكاتب الحقيقي.. ولا شك فى أن مندور لم يأخذ حقه من الأضواء، أستاذًا وناقدًا وصاحب فكر.. وإن كانت كتبه تمثل مصدرًا غنيًا لآلاف المحبين والمريدين من تلاميذه.. تنقل د. مندور بين مناطق كثيرة وسافر فى آفاق الفكر والمعرفة، وتأثر بمدارس كثيرة بين الواقعية والاشتراكية والوجودية.. رفض منها ما رفض، كما حدث مع ماركس، وتحفظ على اجتهادات سارتر.. ورغم ذلك، بقى مخلصًا لثوابت طه حسين.. وبعد أن تجول مندور فى كل هذه الآفاق، عاد إلى ثوابته القديمة فى مدارس النقد الأدبى فى الشعر والمسرح، والواقع الاجتماعي، وقضايا الحريات والعدالة وحقوق الإنسان.. عاد مندور حاملًا ما رآه وما عايشه فى عاصمة النور والجن والملائكة إلى ثوابت ثقافته العربية بكل رموزها، إبداعًا وفكرًا.. لم يخرج من أضواء باريس، لكنه عاد ليشعل آلاف القناديل فى ليل أمته، نقدًا وإصلاحًا، ودعوة للحرية والعدالة.

ـــــ مرت بى سنوات العمر، وأصبحت عضوًا فى لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وكنت ألتقى مع زوجته الشاعرة ملك عبدالعزيز، ونستعيد ذكرياتنا معه.. فى منتصف عام 65، وفى شهر مايو، فوجئت بصديق يتصل بى ويقول: «البقية فى حياتك، د. مندور فى رحاب الله».. كنت يومها لم أزل طالبًا فى الجامعة.. وبقيت خطوط قلم د. مندور بين أوراقى القديمة.. ولم أنس أنه أول من قرأ شعرى وأخذ بيدى وشجعنى هكذا كان كبار مصر: عظماء فى كل شيءٍ، أبوة، إبداعًا، أخلاقًا، وقيمة.. ولن أنسى أبدا د.مندور وهو يعطينى درسا كيف تكتب المقال وكيف نتحاور مع الكلمة وقبل هذا كله كيف تكون صوتا للحق والحقيقة والضمير.

 

..ويبقى الشعر

 

يا عَاشقَ الصُّبح وجهُ الشـَّمْس ينشطِرُ

وأنجُمُ العُمْر خلفَ الأفق تنتحِــــــرُ

تهفـُو إلى الحُلم يَحْبُو فى جَوانِحِنـــــا

حَتـَّى إذا شبَّ يكـْبُو .. ثم يندثـــــــرُ

يَنـْسابُ فى العَيْن ضوءًا .. ثم نلمحُهُ

نهرا من النار فى الأعماق يسـتعـرُ

عمرٌ من الحُزْن قدْ ضَاعتْ ملامحـهُ

وشرَّدتـْهُ المنى واليأسُ..والضَّجـرُ

مَازلت أمْضِى وسرْبُ العُمْر يتبعُنى

وكلـَّما أشْتدَّ حلمٌ .. عَادَ ينكســــرُ

فى الحُلم مَوتى .. مَعَ الجلادِ مقصَلتِى

وَبينَ مَوْتى وحُلمى .. ينـْزفُ العمر

إن يَحْكـم الجهلُ أرضًا كيفَ ينقذهَا

خيط من النـُّور وسْط الليل ينحسـرُ؟

لن يَطلعَ الفجرُ يومًا من حناجرنـَا

ولن يصونَ الحمى منْ بالحمَى غدرُوا

لن يكـْسرَ القيدَ مَنْ لانتْ عزائمُــهُ

ولنْ ينالَ العُلا .. مَنْ شلــهُ الحـــــــذرُ

ذئبٌ قبيحٌ يُصلـِّى فى مَسَاجدنـَـــا

وفوْق أقـْدَاسِنـَا يزهــُـــــو .. ويفتخـــِــرُ

قدْ كانَ يَمْشى على الأشْلاءِ مُنتشيًا

وَحَوْله عُصْبة ُ الجـُــــرذان تأتــــمــــرُ

من أينَ تأتى لوجهِ القـُبْح مكـْرمــــة ٌ

وأنهرُ الملح هل يَنـْمو بها الشَّجــَـــــرُ؟

القاتلُ الوغـْدُ لا تحميهِ مسْبَحـــــــة

حتى إذا قــامَ وسْط البيتِ يعتمــــــــــرُ

كمْ جاءَ يسْعَى وفى كفيه مقصلـــة ُ

وخنـْجَــرُ الغدر فى جنبيهِ يســـتتـــــــرُ

فى صفقةِ العمْر جلادٌ وسيــِّـــــدُهُ

وأمَّة فى مزادِ المــْوتِ تنتحــــِـــــــــرُ

يَعْقــوبُ لا تبتئسْ .. فالذئـْبُ نعْرفـُه

منْ دم يوسُف كل الأهْــل قدْ سكـــرُوا

أسماءُ تبْكى أمـــامَ البيـــتِ فى ألم ٍ

وابنُ الزُّبير على الأعْنــاق ِ يحتضـــرُ

أكادُ ألمحُ خلــــفَ الغيْبِ كارثــــة ً

وبحرَ دَم على الأشلاءِ يَنـْهَمـــــــــــــرُ

يومًا سيحْكى هنا عَنْ أمـَّــة هلكـتْ

لم يبْق من أرْضِها زرعٌ..ولا ثمــــرُ

حقتْ عليْهم مِنَ الرَّحْمــن لعنتـُـــهُ

فعِنـْدَما زادَهم من فضْلِه..فجـَــــــرُوا

يا فارسَ الشِّعر قل للشِّعـر معذرة ً

لنْ يسْمَعَ الشِّعرَ منْ بالوحْى قدْ كفرًوا

واكتبْ على القبْر : هذى أمَّة رَحَلتْ

لم يبق من أهْـلها ذكرٌ..ولا أثــــــــــرُ

arabstoday

GMT 02:43 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

4 ساعات مللاً

GMT 02:41 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

ترامب والأردن... واللاءات المفيدة!

GMT 02:31 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

رسائل محمد الطويّان المفتوحة والمغلقة

GMT 02:28 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

الشرق الأوسط... تشكلٌ جديدٌ

GMT 02:25 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

سنتان أميركيتان مفصليتان في تاريخ العالم

GMT 02:21 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

متى يراجع الفلسطينيون ما حدث؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

محمد مندور عواصف الفكر والعودة للثوابت محمد مندور عواصف الفكر والعودة للثوابت



هيفا وهبي تعكس الابتكار في عالم الموضة عبر اختيارات الحقائب الصغيرة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 11:08 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

أفضل خامات الستائر وتنسيقها مع ديكور المنزل
 العرب اليوم - أفضل خامات الستائر وتنسيقها مع ديكور المنزل

GMT 13:51 2025 السبت ,01 شباط / فبراير

إيران لم تيأس بعد من نجاح مشروعها!

GMT 17:42 2025 السبت ,01 شباط / فبراير

برشلونة يتعاقد مع مهاجم شاب لتدعيم صفوفه

GMT 02:25 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

سنتان أميركيتان مفصليتان في تاريخ العالم

GMT 12:15 2025 الأحد ,02 شباط / فبراير

زلزال بقوة 4.1 درجة يضرب جنوب شرق تايوان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab