سوف تبقى قصة رامى وأم كلثوم حكاية جمعت أسرار نصف قرن من الزمان، بين شاب عاد من بعثة دراسية فى فرنسا، وفتاة ريفية بسيطة اعتادت أن تطوف المدن والقرى تغنى مع والدها فى الموالد والأفراح.. لم يكن أحد يتصور أننا أمام لقاء تاريخى يشبه «لقاء السحاب» بين نجمين جمعتهما الأقدار بلا موعد ..
ـــــ كان رامى عائدًا من فرنسا بعد بعثة دامت سنوات ، وكانت أم كلثوم قد جاءت إلى عاصمة الثقافة، وما بين عاصمة النور وعاصمة الثقافة كان لقاء رامى وأم كلثوم.. كانت هذه البداية تجسد احتلال الفتاة الريفية قامة شعرية واعدة، ولا أدرى من احتل موهبة الآخر: هل احتل الصوت العبقرى موهبة الشاعر، أم أن الشاعر هو الذى بسط سيطرته على المطربة الواعدة؟ ومن منهما كان الأجزل عطاءً؟ فى تقديرى أن الأقدار هى التى جمعت، ومهدت، وصنعت الأسطورة.
ـــــ إن رامى بثقافته وتكوينه كان أبعد ما يكون عن حياة وتكوين أم كلثوم، ولكن الغريب أنه تعهدها بالرعاية، وقدم لها خلاصة عمره وتجربته.. علمها منذ البداية كيف تناقش وتفهم وتقرأ الشعر وتحس بالكلمة.. وعلى جانب آخر، ألهبت مشاعره وسافر مع صوتها وراهن عليه.
ـــــ كان من الممكن أن تبقى أم كلثوم سجينة قريتها طماى الزهايرة، لكنها طورت نفسها وارتقت بمشاعرها.. لا أدعى أنها أحبت رامى ، لكنها وجدت فيه رفيق رحلتها، واستخدمت ذكاء المرأة فى اكتشاف جوانب الضعف فيه وسيطرت على مفاتيح قلبه.. كانت تضحيات رامى لإرضاء أم كلثوم كبيرة ؛ فقد أعطاها أجمل سنوات شبابه رعاية واهتمامًا وتكوينًا.. وكانت التضحية الأكبر أنه تنازل عن تاج الشعر ليكون بجانبها فى إبداع عامية جديدة تفرد بها.
ـــــ على جانب آخر، فرضت أم كلثوم سيطرتها على مشاعر رامى الشاعر والإنسان.. لقد شعرت بأنها امتلكت قلبه فى سنوات قليلة، وبدأت تتحكم فى إبداعه.. وما بين اللقاء والبعد، والهجر والقرب، استطاعت أم كلثوم أن تملك خواطر رامى وتحركها كيفما شاءت أو أرادت.. وما بين «هجرتك يمكن أنسى هواك» و«سهران ياللى كان يشجيك أنيني» و«غلبت أصالح فى روحي».. استولت أم كلثوم على موهبة رامى واستحوذت على كل مفاتيح شخصيته وإبداعه.
ـــــ كان نتاج هذه الرحلة بعض الخسائر وكثيرا من الإبداع ، فقد استطاع أحمد رامى أن يصل بالأغنية المصرية إلى آفاق لم تصلها من قبل ، وقدم للثقافة العربية لغة عامية جديدة تنافس الفصحى وتقترب منها لفظًا وإحساسًا.. ومن خلال لقاء رامى وأم كلثوم ، أخذت الأغنية المصرية مكانة غير مسبوقة إبداعًا وانتشارًا وجمالًا..
ـــــ كانت تضحية رامى كبيرة، فقد كان قريبًا من تجارب سبقته تجسدت فى أمير الشعراء أحمد شوقى وشاعر النيل حافظ إبراهيم ، ولم يكن بعيدًا عن هذه المواهب الضخمة.. ورغم أن لديه فرصة تضعه فى سياق هؤلاء العظماء، فإنه تفرد بالقصيدة العاطفية صياغةً وإحساسًا. ولو أكمل رامى رحلته مع الفصحى لكان منافسًا لكل شعراء عصره، لكنه اختار أم كلثوم عن استقلال شعره.. البعض يرى أن رامى ظلم نفسه حين خضع لسطوة أم كلثوم ، لكنه صنع معها معجزة تاريخية حققت له مكانة فريدة فى تاريخ الأغنية، وجعلت كلماته على كل لسان.. وقبل هذا، فإن رامى اختار ما أراد ومن أحب.
ـــــ كان لقاء رامى وأم كلثوم قدرًا عبقريًا، ولا يعنينا ما كانت أسرار هذه العلاقة، ومن أحب الآخر أكثر، وهل كانت حبًا أم مشاعر امرأة موهوبة وكلمات شاعر معجز.. لا يعنينا إن كانت أم كلثوم أحبت رامى أم كان حبًا من طرف واحد.. المهم أننا عشنا مع رامى وأم كلثوم زمنًا جميلًا، وإبداعًا راقيًا، ومشاعر ما زالت تسكن قلوبنا وتحلق بنا فى آفاق من المتعة والجمال.
ـــــ يبقى بيننا هذا السؤال الحائر: من أحب الآخر، رامى أم أم كلثوم؟ وهل كان حبًا عاديًا مثل كل البشر، أم أن رامى أحب أم كلثوم الصوت والمعجزة كما أحبت شعره وكلماته ؟ وكلاهما حلق فى سماء الآخر بعيدًا عن دنيا البشر.. المعجزات لا تحتاج إلى تفسير أو تساؤل لأنها ظواهر كونية ، وأعظم ما فيها معجزات البشر.
ـــــ ما بين لقاء أم كلثوم ورامى خمسون عامًا من الزمن الجميل وأكثر من 100 أغنية من الإبداع وقصة حب خالدة.. من كان يتخيل أن تجتمع فتاة كفر الزهايرة مع القادم من باريس فى قصة إبداع وعبقرية ؟ إنه القدر الجميل.
كان شيئًا غريبًا أن يذهب رامى فى بعثة إلى فرنسا ليدرس اللغة الفارسية، ويعود لكى يترجم رباعيات عمر الخيام، أشهر شعراء إيران.. هذه التركيبة الإبداعية ما بين العربية والفرنسية والفارسية جعلتنا أمام شاعر محلق، سافر بكلماته فى أكثر من لغة وأكثر من مكان.
ـــــ حين رحلت أم كلثوم وافترق النجمان فى المدار، انشطر رامى عن كوكبه وعاش وحيدًا حتى لحق بها، ويوما سألت عنه رياض السنباطى قال «ظل يعيش بيننا غريبا بعد رحيلها يسمع أم كلثوم ويبكى وجلس يشدو»:
ما جال فى خاطرى أنّى سأرثيها
بعد الذى صُغتُ من أشجى أغانيها
قد كنتُ أسمعها تشدو فتُطربني
واليومَ أسمعنى أبكى وأبكيها
صحبتُها من ضحى عمرى وعشتُ لها
أذفُّ شهدَ المعانى ثمّ أهديها
سُلافةً من جنى فكرى وعاطفتي
تُديرها حول أرواحٍ تُناجيها
لحنا يدبُّ إلى الأسماع يَبْهَرُها
بما حوى من جمالٍ فى تغنيّها
كان من الممكن أن يتزوج العاشقان، ولكنهما شيدا قصة حب فريدة بين صوت معجز وكلمات عبقرية، واختارا الخلود بديلا لزواج مستحيل.
كانت هذه حكاية رامى وكوكب الشرق.. كان من الممكن أن يكون زواجًا وقتيًا، أو ببقى إبداعًا أبديًا.
***
..ويبقى الشعر
الوقتُ لَيْلٌ .. والدَّقائِقُ بَيْنَنا
زَمَنٌ طَويلٌ حينَ يَسْكُنُنا الضَّجَرْ
ما زِلْتُ أَنْظُرُ للسَّمَاءِ فلا أَرى ..
غيرَ السَّحابِ
ورَعْشَةِ البَرْقِ المُسَافِرِ ..والمَطَرْ
فالسُّحُبُ تَرْتَعُ فى السَّمَاءِ .. فيَنْزَوِي
رَكْبُ النُّجُومٍ ...
وَيَخْتَفِى وَجْهُ القَمَرْ
ما عُدْتُ أَلْمَحُ أَيَّ شيءٍ فى طَريٍقي
كُلَّمَا فَتَحْتُ عَيْني
لاحَ فى قَدَمِى حَجَرْ
إِنِّى لأَعْرِفُ أَنَّ دَرْبَكِ شَائِكٌ
وبِأَنَّ هذا القَلْبَ
أَرَّقَهُ الرَّحِيلُ ...
وهَدّهُ طُولُ السَّفَرْ
إِنِّى لأَعْرِفُ أَنَّ حُبَّكِ لَمْ يَزَل
يَنسَابُ كَالأَنهَارِ فى عُمْري
ويُورِقُ كَالشَّجَرْ
وبأننى سَأَظَلُّ أُبْحِرُ فى عُيُونِكِ
رَغْمَ أَنَّ المَوجَ أَرَّقَنى زَمَانًا
ثُمَّ فى أَلَمٍ غَدَرْ
وبأنَّ حُبَّكِ ...
مَارِدٌ كَسَرَ الحُدُودَ ...
وَأَسْقَطَ القَلْبَ المُكَابِرَ .. وَانْتَصَرْ
أَنَا لَمْ أَكُنْ أَدْرِي
بِأَنَّ بِدَايَةَ الدُّنْيَا لَدَيْكِ ..
وَأَنَّ آخِرَهَا إِلَيْكِ ...
وَأَنَّ لِقْيَانَا قَدَرْ
◙ ◙ ◙ ◙
الوَقْتُ لَيْلٌ .. والشِّتَاءُ بِلا قَمَرْ
نَشْتَاقُ فى سَأمِ الشِّتَاءِ...
شُعَاعَ دِفْءٍ حَوْلَنا
نَشْتَاقُ قِنْدِيلًا يُسَامِرُ لَيْلَنَا
نَشْتَاقُ مَنْ يَحْكِى لَنَا
مَنْ لا يَمَلُّ حَدِيثَنَا
تَنْسَابُ أُغْنِيَةٌ
فتمحُو ما تَراكَمَ من هَوانِ زمانِنَا
نَهفو لِعُصْفُورٍ ...
إذا نامَتْ عُيونُ الناسِ
يُؤْنِسُنا .. ويَشْدُو حوْلَنا
نَشْتاقُ مِدْفَأَةً
تُلَمْلِمُ ما تَناثَرَ من فُتاتِ عِظامِنا
نَشْتاقُ رِفْقَةً مُهْجَةٍ تَحْنُو علينَا..
إنْ تَكَاسَلَ فى شُحُوبِ العُمْرِ
يَوْمًا نَبْضُنا
نَشْتاقُ أَفْراحًا ...
تُبَدِّدُ وِحْشَةَ الأَيَّامِ بَيْنَ ضُلُوعنٍا
نَشْتاقُ صَدْرًا يَحْتَوينا ..
كُلَّما عَصَفَتْ بنا أَيْدِى الشِّتاءِ
وَشَرَدَتْ أَحلَامَنَا
◙ ◙ ◙ ◙
الوَقْتُ لَيْلٌ .. والشِّتَاءُ بِلا قَمَرْ
مَاذَا سَيَبْقَى فى صَقِيعِ العُمْرِ
غَيْرُ قَصِيدَةٍ ثُكْلَى ...
يُعَانِقُهَا كِتَابْ ؟!
وَأَنَامِلٌ سَكَنَتْ عَلَى أَوْتَارِهَا
وَتَرَنَّحَتْ فى الصَّمْتِ بَيْنَ دَفَاتِرِ الذِّكْرَى
فَارَقَهَا العَذَابْ
وبَرِيقُ أَيَّامٍ
تَعَثَّرَ بَيْنَ ضَوْءِ الحُلْمِ أَحْيَانًا
وأَشْبَاحُ السَّرَابْ
وَزَمَانُ لُقْيَا ...
طَافَ كَالأَنْسَامِ حِينًا
ثُمَّ بَعْثَرَهُ الغِيَابْ
وقَصِيدَة ..
سَئِمَتْ سُجُونَ الوَقْتِ .. فَانْتَفَضَتْ
تُحَلِّقُ فى السَّحَابْ
وحِكَايَةٌ عَنْ عَاشِقٍ ...
رَسَمَ الحَيَاةَ حَدِيقَةً غَنَّاءَ فى أَرْضٍ خَرَابْ
وأَتَى الشِّتَاءُ ...
فَأَغْرَقَ الطُّرُقَاتِ
أَسْكَتَ أَغْنِيَاتِ الشَّمْسِ
أَوْصَدَ فى عُيُونِى كُلَّ بَابْ
الوَقْتُ لَيْلٌ .. والشِّتَاءُ بِلا قَمَرْ
يَأْتِى الشِّتَاءُ وَعِطْرُهَا
فَوْقَ المَقَاعدِ والمَرَايَا البَاكِيَةْ
وتُطِلُّ صُورَتُهَا عَلَى الجُدْرَانِ
وَجْهًا فى شُمُوخِ الصُّبْحِ
عَيْنًا كَالسَّمَاءِ الصَّافِيَةْ
أَطْيَافُهَا ...
فى كُلِّ رُكْنٍ تَحْمِلُ الذِّكْرَى
فَتُشْعِلُ نَارَهَا
أَحْلَامُ عُمْرٍ بَاقِيَةْ
الْكَوْنُ يَصْغُرُ فِى عُيُونِ النَّاسِ
حِينَ يَصِيرُ عُمْرُ الْمَرْءِ ذِكْرَى
أَو حِكَايَا مَاضِيَةْ
فِى رِحْلَةِ النِّسْيَانِ
تَلْتَئِمُ الْجِرَاحُ وَتَنْطَوِى ...
إِلَّا جِرَاحَ الْقَلْبِ تَبْقَى فِى الْجَوَانِحِ دَامِيَةْ
◙ ◙ ◙ ◙
الوَقْتُ جَلَّادٌ قَبِيحُ الوَجْهِ
يَرْصُدُ خُطْوَتِى ...
وشِتَاؤُنَا لَيْلٌ طَوِيلٌ عَابِثٌ
مَا أَسْوَأَهْ
لا تَسْأَلِ المَلَّاحَ
حِينَ يَغِيبُ فى وَسَطِ الظَّلَامِ
مَتَى سَيَدْنُو مَرْفَأُهْ ؟!
لا تَسْأَلِ القَلْبَ الحَزِينَ
وَقَدْ تَنَاثَرَ جُرْحُهُ
عَنْ أَيِّ سِرٍّ خَبَّأَهْ ؟!
لا تَسْأَلِ الحُلْمَ العَنِيدَ
وَقَدْ تَعَثَّرَتِ الخُطَى
مَنْ يَا تُرَى .. قَبْلَ النِّهَايَةِ أَرْجَأَهْ؟!
الوَقْتُ لَيْلٌ
والقَنَادِيلُ الحَزِينَةُ حَوْلَنَا
تَبْدُو عُيُونًا مُطْفَأَةْ
لا تَكْتَوِى بَيْنَ الشُّمُوعِ
وأَنتَ تَرْسُمُ صُورَةَ الأَمْسِ البَعِيدِ
عَلَى رَمَادِ المِدْفَأَةْ
فالعُمْرُ أَجْمَلُ ...
مِنْ عُيُونِ حَبِيبَةٍ رَحَلَتْ
وأَغْلَى...
مِنْ عَذَابَاتِ امْرَأَةْ