عندى إيمان ويقين بأن الثقافة هى ثروة مصر الحقيقية وإذا كانت الدول تختلف فى مواردها ومصادر ثرائها فهناك شعوب كل ما لديها فكر وحضارة وتاريخ ورصيد ثقافى يضعها فى مكانة خاصة دون باقى الشعوب .. ولم تكن مصر طوال تاريخها مصدرا لثروات ضخمة وإن اعتمد قدماء المصريين فى فترات من تاريخهم على فتوحات واسعة كانت مصدر الحضارة المصرية القديمة .. وهذه الحضارة قامت على فنون متقدمة وجيش قوي..
ـــ وفى عصور لاحقة أصبحت الفنون والعمارة والثقافة أهم مصادر التفوق المصرى .. فكان الإبداع والتوحيد والحياة والعالم الآخر ثم كانت الدولة ونظم الحكم والمؤسسات والجيوش وكان وراء ذلك كله شعب مبدع وإنسان مؤمن وطقوس حياتية تحكم أسلوب العمل والسلوك والإنتاج والعبادة .. جمع المصرى القديم بين الدين توحيدا وبين الفنون إبداعا وبين التحنيط والعلوم والعربات الحربية صناعة وقوة وإرادة .. هذه الثلاثية قامت عليها جذور ومكونات ودوافع المصرى القديم، كان مؤمنا وفنانا مبدعا ومحاربا يدرك قيمة الوطن الأرض التى عاش عليها .. وبعد ذلك كله آمن بالموت حقا والحساب مصيرا والآخرة نهاية البشر والحياة والأشياء .. أعترف: هذه مقدمة طالت منى قليلا ..
ـــ إن الإنسان المصرى بالتكوين والجينات والجذور كان مثقفا ومبدعا ومتدينا قبل أن تهبط الأديان على البشر ومن هنا كان ميلاد الثقافة فى مصر .. إنها لم تكن زرعا غريبا أو ظواهر جديدة ولكنها خلقت مع المصرى قبل مولده ومن هنا كان النيل إحدى معجزات المصريين لأنه الحياة وكانت المعابد والصلوات لأنها الفن وكانت مواسم الزرع والحصاد لأنها العلاقة بالخالق سبحانه .. تطور الزمن وتغيرت ألوان الحياة وخرجت أجيال غير الأجيال وبقيت جذور الثقافة تمتد آلاف السنين إبداعا ودينا وفكرا وسلوكا وأسلوب حياة .. بقيت مصر المؤمنة المتدينة وحين هبطت الأديان ونزل الرسل كانت أول من آمن بهم واحتضن رسالاتهم، وتغيرت الأديان وبقى إيمان مصر فكانت اليهودية والمسيحية والمسلمة وشيدت المعابد والكنائس والمساجد وصدرت الأديان لكل البشر ودافعت عن إيمانها فى كل العصور ..
ـــ وجاء الأنبياء والرسل وعاش منهم من عاش وعبر فيها من عبر وبقى الإيمان لدى المصريين وإن اختلفت العقائد .. وكما أقامت المعابد الفرعونية فنا بديعا أقامت معابد موسى عليه السلام وكنائس عيسى ومساجد المصطفى آخر أنبياء الله عليه الصلاة والسلام .. وكما بقيت مصر المؤمنة بقيت مصر المبدعة وعلمت العالم كيف يكون الإنسان راقيا مترفعا .. وعلى ضفاف نيلها الخالد كان هناك جيش يحميها ويدافع عنها فى أوقات المحن والشدائد .. قالوا إنها عبدت النيل فى العصور القديمة ولم تكن تعبد نهرا ولكنها كانت تقدس مصدر حياتها ورخائها وحمايتها .. وكلما هبت عليها عواصف العدوان كان جيشها مصدر قوتها وبقى المصرى طوال كل العصور ينتمى للأرض ويؤمن بالقدر ويحب الحياة ..
ـــ أردت من هذه السياحة الفكرية اؤكد أن جذور الإنسان المصرى تمتد آلاف السنين وانه ليس وليد المصادفة أو التجمعات البشرية العابرة ولكنه يحمل سمات أزمنة طويلة .. وحين نقول إن مصر شيء مختلف فهذه هى الحقيقة وعلينا أن نحافظ على جذورنا ومكوناتنا التى عشنا عليها ويجب أن ندرك ..
أولاً: إننا شعب مؤمن احتضن كل الرسالات السماوية وعلمها لشعوب الأرض وإننا أصحاب رسالة إنسانية تدرك قيمة الحياة وأقدار البشر ..
ثانياً: إن الشعب الذى أبدع فى صنع الحضارة أهراما ومعابد وكنائس ومساجد، هذا الشعب المبدع لا يمكن أن يتصالح مع القبح او يقبل الترخص أو يرضى المهانة إنه بحكم التكوين لابد ان يكون مترفعا واعيا مهذبا وجميلا ..
ثالثاً: إن الثقافة ليست كتابا ولكنها سلوك متحضر وفكر واع وضمير يقظ وإنسان يقدر معنى الحق والخير والجمال وإن الأشياء التى تشوه هذه الصورة لا تتناسب مع حياة وسلوك قام على الرقى والترفع ..
رابعاً: إن من شيد الأهرامات ومعبد الكرنك وتماثيل نفرتيتى ورمسيس ينبغى ألا يقبل عشوائيات البناء وتكدس البقايا .. والذى أقام الكنيسة المعلقة ومسجدى الحسين والسيدة زينب رضى الله عنهما ينبغى ألا يعيش مع خرائب العشوائيات ..
خامساً: إن من سمع أم كلثوم وعبد الوهاب والسنباطى ورامى لا يمكن أن يرقص مع حشود الابتذال والفن الهابط ولا يمكن أن يشارك فى حوار رخيص أو يطلق كلمات مسمومة ..
سادساً : إن المؤمن الحقيقى لا يمكن أن يكون داعية ضلال أو مروج شائعات أو صوتا لأفكار مريضة. إن الأرض التى آمنت من آلاف السنين لا يمكن أن تكون صوتا للضلال والمعاصى ..
سابعا: إن كل من يدعو إلى تهميش الفكر وتشويه الثقافة وإلغاء العقل يرتكب جريمة فى حق هذا الشعب، لأن ثقافة مصر التى صنعتها على عينها فى آلاف السنين هى تاجها الحقيقى وثروتها التى لا تعوض .. وحين نفرط فيها فنحن نخسر دورنا التاريخى وقيمتنا الحقيقية ..
ثامنا: إن إهمال عقل الأمة جريمة وترويج القبح جريمة وتشجيع الضلال ضلال ونسيان دورنا الثقافى إدانة لأننا بدون ثقافتنا نمشى أمام العالم عرايا، لأن ثقافة مصر التى تتراجع دورا وتأثيرا وقيمة واهتماما جريمة سوف نحاسب عليها ولن يغفرها لنا التاريخ.. أعيدوا لمصر ثقافتها، فهى تاجنا الحقيقى ..
ــــــ إن ثقافة مصر التى كانت ومازالت أهم أدوارنا وهى انقى صفحات تاريخنا إبداعا وإيمانا وفنونا وحضارة - تعانى الآن إهمالا شديدا وتتعرض لمحاولات تشويه من أطراف كثيرة ما بين متآمرين عليها وراغبين فى وراثة دورها أو متواطئين من أبنائها أو شامتين فيها .. ويجب أن نتصدى لكل هؤلاء بوعى وفهم ومسئولية، لأننا بدون ثقافتنا نخسر اغلى وأجمل ما فينا .. كل الأشياء مهما تكن قيمتها لن تعوضنا عن خسارة دورنا الثقافى .. إن غياب الثقافة عن حياة المصريين كان سببا فى عشوائيات البناء وتطرف الفكر وهبوط لغة الحوار والفن الساقط والجريمة.. حين تغيب الثقافة تسقط القيمة ويتشوه الفكر ويحصل العقل على اجازة وتفسد القلوب وتجف ينابيع الحكمة ويخبو بريق الأشياء.
ــــــ إن ثقافة مصر بحكم التاريخ هى أقدم ما نملك وبحكم القيمة هى تاجنا الحقيقى وبحكم الثروة هى اغلى ما عندنا وبحكم البقاء هى تراثنا الباقى وبحكم الواقع نخسر كثيرا إذا فرطنا فيها.. ولذلك اشعر بحزن شديد وأنا أرى الثقافة تتراجع فى قائمة اهتماماتنا. لم تعد تتمتع بالبريق القديم وأتساءل كثيرا أين مصر الرموز وأين مصر الدور وأين مصر الإبداع؟!.. كانت مصر هى التى تحرك الأشياء وتهز العقول وتشعل الوجدان فكيف قبلنا على أنفسنا أن نكون صدى للآخرين وأن ننسى دورنا قيمة وتاريخا وإبداعا وتأثيرا.. ليست هذه مصر الثقافة التى اعرفها وشربت من نيلها وسافرت مع نجومها وأطربنى غناؤها.. أعيدوا مصر الثقافة التى وحدت وآمنت وأحيت القلوب والمشاعر بالإبداع والجمال والصدق والمكانة .. مصر الثقافة اغنى بلاد الكون، وبلا ثقافة عقل بلا ذاكرة ووجدان بلا إحساس، أعيدوا لمصر عرشها الحقيقى ..
..ويبقى الشعر
الليلةَ َأِجلسُ يا قلبِى خلفَ الأبوابْ
أتأمَّلُ وجهِى كالأغرابْ
يتلوَّن وَجهى ِلا أدْري
هلْ ألمحُ وجْهى أم هذَا .. وجهٌ كذابْ؟
مِدفأتِى تنكرُ ماضينَا
والدفُّء سرابْ
تيار النورِ يحاوِرُني
يهرب منْ عينى أحيانًا
ويعودُ يدَغدغُ أعصَابي
والخوفُ عذابْ
أشعُرُ ببرودةِ أيَّامي
مِرآتِى تعكِس ألوانـًا
لونٌ يتَعثرُ فى ألوانْ
والليلُ طويلٌ والأحزانْ
وقفتْ تتثاءَبُ فِى مَللٍ
وتدُورُ وتضْحكُ فِى وجْهِي
وتُقهقهُ تعلُو ضحْكاتُها بينَ الجُدرانْ
<<<
الصَّمتُ العَاصِفُ يحمِلُنى خلفَ الأبوابْ
فأرَى الأيامَ بلا مَعنَى
وأرَى الأشْياءَ .. بلاَ أسْبابْ
خوفٌ وضياعٌ فِى الطُّرقاتْ
مَا أسْوأَ أنْ تبقَى حيًا..
والأرضُ بقايا أمواتْ
الليلُ يحاصِرُ أيامِي..
ويدُورُ .. ويعبثُ فِى الحُجُراتْ
فالليلةَ ما زلتُ وحِيدًا
أتَسكَّع فِى صَمتِى حينًا
تَحملُنِى الذكرَى للنسيَانْ
أنتَشِلُ الحَاضِرَ فِى مللٍ
أتذكرُ وجْهَ الأرضِ .. ولونَ النَّاسِ
همومَ الوحدةِ .. والسَّجَّانْ
<<<
سأمُوتُ وحِيدًا
قَالتْ عرَّافةُ قريتنَا : ستُموتُ وحِيدًا
قد أُشعلُ يومًا مِدْفأتي
فتثورُ النارُ .. وتحرِقنِى
قد أفتحُ شبَّاكِى خوفـًا
فيجيءُ ظلامٌ يُغْرقنِي
قد أفتحُ بَابِى مهمُومًا
كيْ يدخل لصُّ يخنْقنِي
أو يدْخل حارسُ قريتِنا
يحمِلُ أحكَامًا وقضَايا
يُخطئ فى فهم الأحكامْ
يُطلِقُ فِى صَدْرِى النيرانْ
ويعُودُ يلملمُ أشلاَئى,
ويَظلُّ يَصيحُ على قبرِي:
أخطَأتُ وربَّى فِى الُعنوانْ
<<<
الليلةَ أجلسُ يا قلبْى .. والضَّوء شَحيحْ
وسَتائُر بيتِى أوراقٌ مزَّقها الرَّيحْ
الشاشةُ ضوءُ وظِلالٌ
و الوجهُ قبيحْ
الخوفُ يكبلُ أجْفانِى فيضيعُ النومْ
والبردُ يزلزلُ أعماقِى مثلَ البُركانْ
أفتحُ شـُباكى فِى صمتٍ
يتَسللُ خوْفِى يُغلِقُه
فأرَى الأشباحَ بكلَّ مكَانْ
أتناثرُ وَحْدِى فى الأركانْ
<<<
الليلةَ عدْنَا أغرابًا والعُمْر شتاءْ
فالشَّمسُ توارتْ فى سأمٍ ٍ
والبدرُ يجيءُ بغيرِ ضِياءْ..
أعرفُ عينيك ِوإنْ صرْنا بعضَ الأشلاءْ
طالتْ أيامِى أم قَصرتْ فالأمرُ سواءْ
قدْ جئتُ وحيدًا للدُّنيا
وسأرحَلُ مثلَ الغُرباءْ
قدْ أخْطئُ فهمَ الأشْياءْ
لكنى أعرفُ عينيكِ
فى الحـُزن سأعرفُ عينيكِ
فى الخَوفِ سأعرفُ عينيكِ
فى الموتِ سأعرفُ عينيكِ
عيناكِ تدورُ فأرصدُها بينَ الأطيافْ
أحملُ أيامَكِ فى صَـدْرِي
بين الأنقاضِ .. وحينَ أخافْ
أنثرُها سطراً .. فسُطورًا
أرسُمُها زمنـًا .. أزمانـًا
قدْ يقسُو الموجُ فيـُلقينِى فوقَ المجدَافْ
قد يغدُو العُمرُ بلا ضوءٍ
ويصيرُ البحرُ بلا أصدافْ
لكنى أحملُ عينيكِ
قالتْ عرافةُ قريتنَا
أبحرْ ما شئتَ بعينَيها لَا تخشَ الموتْ
تعويذة ُعمْرِى عَينَاكِ
<<<
يتسللُ عطرُك خَلفَ البابْ
أشعرُ بيديكِ على صدْري
ألمحٌ عينيكِ على وجْهِي
أنفاسـُك تحضنُ أنفاسِى والليل ظلامْ
الدفء يُحَاصِرُ مدفأتى وتدُورُ النارْ
أغلـِقُ شبَّاكى فى صمتٍ .. وأعود أنامْ
قصيدة من ليالى الغربة سنة 1986