بقلم - عبد المنعم سعيد
الشائع في علم العلاقات الدولية هو أنه يرتكز على القوى العظمى وعلاقاتها، وما بعد ذلك إما مجرد تفاصيل أو أقل شأنًا من المنظومة الرئيسية القادرة على الهيمنة ومد النفوذ، والمنافسة بالسلم أو بالحرب أو بالردع مع القوى العظمى الأخرى. والشائع أيضًا أن توصف المنظومة الرئيسية بعدد الأقطاب فيها، فيقال النظام متعدد الأقطاب، كما كان الحال ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. أو نظام القطبين، كما كان في أعقاب الحرب الثانية، حينما انفردت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى بالنظام الدولى. أو نظام القطب الواحد، كما كانت بريطانيا ما بين ١٨١٥ بعد هزيمة نابليون و١٩١٤ ونشوب الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى عام ١٩٩١.
السنوات الأخيرة باتت عامرة بالأسئلة حول التغيير في النظام الدولى، وعما إذا كانت ظواهر بعينها يمكنها أن تشكل علامة فارقة في التحول من نظام إلى آخر. وبينما كانت الحرب دائمًا ما تقوم بهذه المهمة الانتقالية من مرحلة إلى أخرى، فإن السؤال ظل مطروحًا عندما باتت أعراض مناخية مثل الاحتباس الحرارى، أو صحية مثل «جائحة كورونا» تدفع بقوة في استكشاف طريقة أخرى يُدار بها العالم غير تلك القائمة على الدول العظمى التي حدث أنها هي أعضاء دائمة في مجلس الأمن الدولى، وأنها مسلحة حتى الأسنان بالأسلحة النووية. «الحرب الأوكرانية» عادت بالحرب نحو نقطة فارقة أخرى لأنها وضعت الصين في مكانة بارزة من النظام الدولى، وهبطت بروسيا عن مكانتها المعتادة بعدما بات ملحوظًا التدهور في قوتها العسكرية.
الأمر على هذا النحو دفع إلى إجماع أولًا على أن النظام الدولى لم يستقر بعد، وأنه يمر بحالة من السيولة أو مرحلة من «عدم اليقين»، وثانيًا أن الواجب يقتضى ملاحظة ومراقبة الظواهر المختلفة وهى تجرى، وانتظار الوقت الذي تتوقف فيه الموسيقى في عالم يبدو كما لو كان يمر بحالة من لعبة الكراسى الموسيقية، حيث تبحث الأطراف المختلفة عن المقاعد التي سوف تجلس عليها، بينما طرف واحد يعجز عن الجلوس ويصبح واقعًا خارج اللعبة.
في المشهد الدولى الحالى، خاصة فيما يتعلق ببلادنا العربية والإفريقية، أو باختصار المدارات التي تعيش فيها مصر، نجد أنها مرت بتجربتين متواليتين: القمة العربية- الصينية، والقمة الإفريقية- الأمريكية. ورغم أن مثل هذه القمم ليست جديدة من ناحية الشكل، فقد عُقدت قمم جمعت العرب وأوروبا والأفارقة مع أمريكا وروسيا واليابان من قبل؛ ولكن هاتين القمتين المشار إليهما عُقدتا في مرحلة مختلفة تنوء بأثقال الحرب الأوكرانية، والأوزان السياسية للإعلان الأمريكى في استراتيجية الأمن القومى الأمريكى أن الصين هي المنافس الأساسى للولايات المتحدة. وللتمهيد فإن «دبلوماسية القمة» كانت إشارة قالها رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل عام ١٩٥٠ عندما وصف اجتماعًا لرؤساء الدول لإجراء مفاوضات وجهًا لوجه. وبشكل عام فإن المواجهة المباشرة لقادة الدول للتعامل مع موضوعات مهمة باتت لها أهمية خاصة ذات دلالة رمزية ليس فقط على أهمية الموضوع، وإنما أكثر من ذلك فهى كاشفة عن تحولات جوهرية تتضمن البحث عن طريق لخروج العالم من المأزق الذي وصل إليه.
القمتان كما هو واضح تشملان مجموعتين من الدول الإقليمية- العربية والإفريقية- تتقابلان وتتفاوضان مع قوة عظمى على جدول أعمال يشمل مصالح سياسية واقتصادية وأمنية. ولكن القوتين العظميين المعبرتين بشكل أو آخر عن الواقع الحالى للقطبية الثنائية الجديدة، أي الولايات المتحدة والصين، هما الطرف الآخر على المائدة في كل مرة. هنا فإنه داخل الدول الإقليمية من ينتمى إلى العالم العربى والقارة الإفريقية في آن واحد، وبينما كانت «الجامعة العربية» حاضرة في القمة العربية- الصينية، فإن الاتحاد الإفريقى كان مدعوًا هو الآخر إلى القمة الإفريقية- الأمريكية. الأمر على هذا النحو يمكن أن يفسر بتعدد مصالح الدول، وشكل علاقاتها السابقة مع واشنطن أو بكين، أو أن الرؤية الجمعية لواقع الدولتين الأعظم تختلف عن تلك الفردية والتى تقع في واقع مختلف. الأمر كذلك يمكن تفسيره على أن السمة الراهنة للعلاقات الدولية هي المرونة والديناميكية الشديدة التي تسعى فيها الدول النامية إلى استخلاص المزايا المتنوعة من التعامل مع طرفين قادرين، ولكنهما مختلفان في نوعية ما يقدمانه من قدرات.
الإشكالية الكبرى في هذا الأمر هي أن القوتين العظميين تسجلان حالة من المنافسة غير الناعمة أحيانًا، والتى شهدت سلوكيات خشنة كتلك التي اتبعتها الصين في أعقاب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكى- نانسى بيلوسى- إلى تايوان، مما حدا ببكين إلى إقامة حصار عسكرى منذر حول الجزيرة التايوانية. التاريخ أيضًا يشهد على ما سُمى في فترة الحرب الباردة السابقة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى «طغيان الضعيف» عندما تقوم دول نامية أو صغيرة بالتلاعب باهتمامات الدول الأعظم من أجل استخلاص منافع منها جميعًا. مثل هذه الحالة أو تلك تخلق حالة من الاضطراب المهدد لأمن واستقلال واستقرار النظم الإقليمية والنظام الدولى معًا. الإشكالية التي لا تقل أهمية تنبع من حقيقة أنه رغم وجود العديد من التناقضات بين الولايات المتحدة والصين، فإنه على الجانب الآخر توجد درجات من الاعتماد المتبادل بينهما. كلاهما بالتأكيد متربص بالآخر، ولكن كلًا منهما يعتمد اعتمادًا كبيرًا على سوق الطرف الآخر، وعلى وجود مصالح مشتركة لها علاقة بالأوبئة وسخونة كوكب الأرض. الإشكالية الثالثة التي تفرض نفسها على علاقات الأقاليم بالقوتين العظميين أن كلتيهما تتغير داخليًا وبشكل متذبذب أحيانًا، كما هو حادث في الداخل الأمريكى بين السياسات التي لا تعتد بالحالة الداخلية في الدول النامية في ظل رئاسة دونالد ترامب، والواقع الحالى للرئيس بايدن المصمم على تقسيم العالم إلى «ديمقراطيين وسلطويين»، وفوق ذلك فإنه يربط علاقاته ومساعداته بالمدى الذي تصل إليه الدولة في التحول نحو الديمقراطية. الصين على الجانب الآخر تتغير، وفى ظل الرئاسة الثالثة لشى جين بينج خرجت الصين من «كمونها الاستراتيجى» إلى حالة من الفتح الاستراتيجى وأصبحت السياسة الخارجية للصين أكثر طموحًا وحزمًا، من خلال السعى لأدوار قيادية في وكالات الأمم المتحدة إلى مبادرة الحزام والطريق الواسعة وبناء الجزر في بحر الصين الجنوبى.
فك شفرة العلاقات الأمريكية- الصينية سوف تظل همًا كبيرًا لعلاقات الإقليمين العربى والإفريقى مع كليهما، وهنا تحديدًا تبرز أهمية الدور المصرى في صياغة كل علاقة على حدة وخلق الجسور بينهما في ذات الوقت. الأمر هكذا يضع على عاتق مصر الكثير لأنها بحكم موقعها وتاريخها وخبرتها الدولية لديها الكثير للقيام بهذه المهمة، بينما تقوم في نفس الوقت بتعزيز مصالحها الوطنية. ولعل المهمة الأولى سوف تكون صياغة المصالح المشتركة بين دول الإقليمين العربى والإفريقى التي من خلالها يمكن دعم التعاون بين الطرفين مع تلافى تناقضاتهما، ومن يعلم ربما يكون ممكنًا تشجيعهما معًا على حل مشكلات ومعضلات كونية مستعصية يقع في مقدمتها وقف الحرب الأوكرانية.