بقلم - عبد المنعم سعيد
الحديث هنا لن يكون عن جمهورية الصين الشعبية، وإنما عن جمهورية مصر العربية، حيث يقال دائما إنك لن تعرف الطريق ما لم تعرف الهدف أو نقطة الوصول، وهى هنا أن تكون مصر هى المثال الصينى فى منطقة الشرق الأوسط. مصر مثل الصين فى إقليمها هى الأكثر كثافة سكانية وهى الأكثر عمقا فى التاريخ، وهو الذى أعطاها مكانة حتى عندما كانت تابعة لإمبراطوريات، وعلى عكس الصين فهى التى بدأت الحداثة فى إقليمها، بينما كانت اليابان هى التى حملت الراية فى الشرق الأقصى.
وإذا فهمنا مصر كما فهمت الصين نفسها فى شرق آسيا، فإن مساحتها، فضلا عن أن السوق تحتوى على ثروات طائلة بعضها لا متناهى مثل السليكون والطاقة الشمسية، فضلا عما يمكن أن تجنيه من ثروات بشرية عقلية مبدعة. المعتاد الجديد فى العلاقات الدولية الآن هو أن الصين قد باتت قوة عظمى، ولم تعد فى سبيلها لكى تكون كذلك، وإذا كان أولى علاماتها أنها لم تعد تعتمد على الولايات المتحدة فى مقاومة الإرهاب فى أفغانستان، وإنما سوف تسعى لكى تقيم تعاونا أو تحالفا أو ائتلافا بينها وبين باكستان وروسيا وإيران لكيلا تكون أفغانستان دولة مضيفة للإرهاب.
آخر علاماتها تظهر فى سعيها لحل الأزمة- الحرب الأوكرانية، وقدراتها فى تحقيق الاتفاق السعودى الإيرانى.
ما عدا ذلك لا يهم، فالصين ليست مهتمة بمدى انتشار الديمقراطية فى كابول أو غيرها من عواصم العالم، واهتمامها كان ولايزال هو استمرار عملية البناء الداخلى فى الصين على مسار الدولة العظمى التى تصدر للعالم كل شىء ومعه تصل إلى الفضاء الخارجى، وإذا كان الأمريكيون يعتقدون أن الصين ليس فى إمكانها إنتاج شركات مثل «أبل» و«أمازون» أو السيارة الكهربائية، فإن الصين الآن لديها «على بابا» و«جى 5» وسيارات كهربائية وأقمار صناعية وشركات عملاقة ومشروع كونى «الحزام والطريق».
مفتاح كل ذلك هو «البناء الداخلى» و«الكمون الاستراتيجى» حتى يتم بناء القوة، ثم بعد ذلك «الفتح الاستراتيجى» عندما تصبح القوة حقيقية وذات هدف نبيل بعد تعريف «النُبل» فى اللغة الصينية. بدأ المشروع الصينى قبل ٤٥ عاما عندما انعقد مؤتمر الحزب الشيوعى الصينى فى عام ١٩٧٨ بقيادة «دينج هيتساو بينج» الذى كانت أولى رحلاته خارج بكين إلى دولة صغيرة فى المحيط الهندى هى سنغافورة يرأسها رجل حكيم «لى كوان يو» لكى يتعلم منه كيف يكون الإصلاح، وكان من أهم ما قاله بعد الزيارة «إنه ليس من المهم أن يكون القط أبيض أو أسود، اشتراكيا أو رأسماليا، وإنما الأكثر أهمية أن يكون قادرا على اصطياد الفئران». كان الفئران هم الفقر والحرمان لدولة تجاوز عدد سكانها المليار نسمة، وحصلت على أقدار هائلة من الإهانات التاريخية من الاستعمار البعيد مثل بريطانيا أثناء حرب الأفيون فى القرن التاسع عشر، والاستعمار القريب من اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية فى القرن العشرين. المعنى العملى لمفهوم البناء الداخلى كان تحقيق معدل للنمو سنويا يتجاوز ٨٪، وخلال عقدين ونصف وصلت الصين فى أعوام إلى ١٣٪ حتى خشى اقتصاديون من الآثار السلبية لزيادة سخونة الاقتصاد حيث يشتد الطلب على أمور غير مواتية مثل الطاقة والبنية الأساسية. وفى عام ٢٠١٠ قمت بإجراء حديث صحفى مع رئيس الوزراء اليابانى «هوماتويا» ونشر فى صحيفة الأهرام الغراء، وعندما سألته عما ذاع فى ذلك الوقت أن الصين على وشك أن تتجاوز اليابان فى المكانة الثانية للاقتصاد العالمى، أدهشنى ساعتها قوله إن ذلك هو الوضع الطبيعى لأن الصين من حيث المساحة وعدد السكان لابد لها أن تكون متقدمة على اليابان. ما لم يقله وقتها إن الصين قد باتت مصممة ليس فقط أن تكون فى المركز الثانى وإنما أن تكون فى المركز الأول.
خلال السنوات الثمانى الماضية ركزت مصر كثيرا على عملية البناء الداخلى وحققت فيها نموا إيجابيا رغم الظروف المعاكسة التى جدت مع «جائحة كورونا» ومن بعدها الأزمة/ الحرب الأوكرانية وما نجم عنهما من آثار سلبية على الاقتصاد العالمى. ونجحت مصر فى تجنب التورط فى صراعات خارجية، وعلى العكس فإنها أدخلت إلى المنطقة مفاهيم مثل «الدولة الوطنية» و«التعاون الإقليمى» الذى أخذ أشكالا غير معتادة مثل منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط. ولكن مصر لم تحقق بعد الهدف الصينى الذى لا يقل عن ٨٪ سنويا إلا فى الظروف الاستثنائية والوباء وارتفاع حجم الاقتصاد إلى الدرجة التى تجعل ٥٪ مقبولة فى اقتصاد حجمه يقترب من ٢٠ تريليون دولار. مثل هذا الهدف ممكن داخل الاقتصاد المصرى وحجمه ٤٧٠ مليار دولار، بمعنى أنه لا يزال فى أولى درجات السلم الموسيقى للتنمية. هنا فإن بعض التحفظ سوف يثار حول صلاحية إثارة الموضوع بينما تمر مصر بلحظة اقتصادية حرجة علاماتها وإشاراتها صعبة من عجز الموازنة العامة إلى التضخم وارتفاع الأسعار، إلى الآثار السلبية على الفقراء والطبقة الوسطى معا.
اللحظة الحرجة هذه، فضلا عن حاجتها لحنكة وحكمة الاقتصاديين، فإنها لابد أن تكون محفزة لإدراك الحقيقة التى أدركها «هوماتويا» فيما يتعلق بالصين لأنه قام بالحساب الإيجابى لعدد السكان، والمساحة، مع ساعات العمل، ووجد أن النتيجة التنموية لذلك هى أن تكون الصين فى المقدمة. الحقيقة الأولى فى مصر أن هناك فوائض كثيرة ينبغى استغلالها من أول الطاقة الكهربائية إلى فوائض الموانئ والمطارات والطرق والمدن الجديدة والبحيرات النظيفة والجزر الساحرة فى النهر والبحر والتى تزيد مساحتها الكلية عن مساحات دول. باختصار فإن تشغيل ما تغير فى مصر بالفعل هو القضية الأولى واجبة الاعتبار، وسواء تم ذلك باستثمارات محلية أو أجنبية، أو بالاستحواذ والتشغيل. الحقيقة الثانية هى أن هناك فائض عمل كبير، ولذا فإن المهمة هى عمل المصريين لثمانى ساعات يوميا، ومن كان متشككا فى إمكانية ذلك فإن عليه أن يرجع إلى تجربتنا خلال الأعوام الماضية التى عمل فيها ما يتراوح بين ٥ و٦ ملايين مصرى فى مشروعات تتراوح فى ماديات التقدم التكنولوجى ودرجات ما تحتاجه من مهارة وعلم.
الحقيقة الثالثة هى أن وضع ٨٪ معدل نمو كهدف استراتيجى لمصرى ينهى ذلك اللغو عن حجم مشاركة القطاعات الإنتاجية المختلفة من قطاع عام وخاص والجيش الوطنى فى الوصول لهذا الهدف. فالحقيقة الساطعة هى أننا نحتاج من هؤلاء جميعا مضاعفة جهودهم وبذل المزيد من العرق والمال والعقل فى تحقيق هذا الهدف. الحقيقة الرابعة أن ما قامت به قيادة البلاد خلال السنوات الماضية غير مسبوق ولم يتحقق من قبل، والمؤكد أنه كما هى العادة لم يصل إلى طريق مسدود، وإنما باتت كل الطرق الآن مفتوحة لإدارة الحقائق الثلاث السابقة فى اتجاه الإضافة للناتج القومى دون مزاحمة أو مزايدة، وإنما مشاركة تاريخية فى تحقيق الهدف القومى، وساعتها سوف تكون مصر صين الشرق الأوسط.