بقلم - عبد المنعم سعيد
يبدو أن البشرية قد دخلت بالفعل فى عصر الثورة الصناعية التكنولوجية الرابعة؛ لم يعد العصر هو «الرقمنة» و«المعلوماتية» وإنما معهما الآلية الجديدة للذكاء الاصطناعى، الذى هو ببساطة نوع من محاكاة العقل الإنسانى وقدرته على ربط المعلومات ونسج المعارف وتحليلها واستنباط أنماطها. الشكل البسيط منه هو تتبع الإنسان فى اختياراته وأذواقه الفنية والأدبية والموسيقية وتصويته فى الانتخابات العامة، بحيث يمكن أولا توجيه كل ذلك ساعة تسويق السلع والمواقف؛ وثانيا تشجيع الاختيارات ساعة المنافسة.
هذا ليس مجرد تطور آخر فى أدوات البحث والمعرفة، ولكنه ثورة كاملة ربما لا تزال فى العصر «البرونزى» أى فى أولها، ولكنها أصبحت مسجلة فى الرصيد الإنسانى. وبهذا المعنى لعلها سوف تكون أسرع انتقال جرى فى التاريخ البشرى منذ عرف الإنسان النار. الحقيقة هى أن هناك تسارعا كبيرا فى الثورات التكنولوجية التى تشهدها البشرية، فقد استغرق البشر ٢٠٠٠ عام للانتقال من الثورة الزراعية إلى الثورة الصناعية الأولى، أما الانتقال للثورة الصناعية الثانية فقد استغرق ٢٠٠ عاما فقط، وخمسين عاما للدخول إلى الثورة الصناعية الثالثة، أو الثورة الرقمية، وصولا للثورة الرابعة التى جوهرها الذكاء الاصطناعى فى أقل من عقدين.
كنت أنا وأبناء جيلى من مواليد الأربعينيات من القرن الماضى محظوظين عندما عشنا الثورة الصناعية الثانية التى تجلت أكثر ما تجلت أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما باتت آلة الاحتراق الداخلى بديلا كاملا للآلة البخارية التى كانت علامة الثورة الأولى فى القطارات والسفن. الآن أصبحنا نعيش فى عصر السيارات والطائرات، وبدأت الطفرة الكبيرة فى الاستخدامات المنزلية واختراع التلفزيون، ومعه أنواع جديدة من الطباعة والدواء، ومع كل ذلك بدأ عمر الإنسان يزيد.
لم نبلغ منتصف العمر حتى واجهتنا الثورة الرقمية، وكانت هناك مقاومة نفسية للأكاديميين منا والصحفيين وكثير من الصناعيين فى تقبل الثورة الجديدة التى جاءت عفية ومزدهرة مع ظهور الكمبيوتر الشخصى، ونجومه وأبطاله من أمثال ستيفن جوبز وبيل جيتس. ما بقى بعد ذلك من تفصيل وتحسينات انتشرت فى المجالات الصناعية المختلفة حتى وصلنا إلى التليفون الجوال. كل ذلك انتقل من جودة إلى أخرى من خلال تطبيقات جديدة تفتح مجالات أمام الاتصال الإنسانى، حتى جاء التطبيق الجديد Chat GPT الذى أخذ ذلك كله إلى عالم جديد، وخلال شهرين فقط من خروجه إلى النور كان ١٠٠ مليون من البشر يستخدمونه فى سابقة غير مسبوقة لا عرفتها «جوجل» ولا «فيسبوك».
«Chat GPT» عبارة عن روبوت محادثة تم إطلاقه فى ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٢. وطرحت مايكروسوفت أيضا منتجها الخاص ولكنه مع الأيام لم يكن قادرا على المنافسة. هو نموذج دردشة تم تطويره بواسطة «OpenAI»، وهى منظمة أبحاث فى مجال الذكاء الاصطناعى من أجل مغالبة «جوجل» فى أكثر من مجال أهمها أنه لا يقدم المعلومات والمعرفة فقط وإنما فوق ذلك قادر على تطويرها وتقديمها فى أشكال البحوث والمقال. التطبيق تم بناؤه باستخدام تقنيات التعلم العميق المتطورة مستخدما الذكاء الاصطناعى الذى لا يتدخل فى الأمور الفردية فحسب، بل له تأثير كبير على القيم السياسية والمجتمع ككل، حينما ينتقل من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية فى الاستخدام. وهنا يكون التأثير بحيث يديم التحيز والتمييز من خلال أنظمة القرار والتوصية والتدخل فى الانتخابات.
ومن الممكن أن تؤثر هذه التقنيات على سوق العمل، كما يمكننا أن نتوقع من الخوارزميات إما أن تكمل كفاءات العمال وتزيد من إنتاجيتهم، أو تقلل من إمكانية توظيف البشر تمامًا.
ويمكن لتطبيق «Chat GPT» أن يؤثر على السياسة بعدة طرق: أولاً، يمكنه مساعدة السياسيين فى إنشاء خطاباتهم وبياناتهم الصحفية ومقترحاتهم السياسية من خلال إنشاء نص متماسك وجيد الصياغة. كما يمكنه مساعدتهم فى توصيل أفكارهم ومواقفهم بشكل فعال، مما يسهل عليهم التواصل مع الناخبين وكسب دعمهم. ثانيا، «Chat GPT» قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات والمعلومات، مثل بيانات الاقتراع واتجاهات وسائل التواصل الاجتماعى؛ ويمكنه مساعدة السياسيين على فهم القضايا التى تهم الناخبين بشكل أفضل وصياغة سياسات أكثر انسجامًا مع الرأى العام.
وعموما هناك مخاوف بشأن التطور السريع فى تقنيات الذكاء الاصطناعى، وفى حين أن هذه المخاوف تماثل ذاتها التى جرت مع كل الثورات الصناعية السابقة فإنه لا يوجد إجماع حول ما إذا كانت المخاطر ستتحقق وإلى أى مدى. وفى العموم سوف تكون السياسة التكنولوجية المصممة بعناية قادرة على تعزيز تطوير الذكاء الاصطناعى، مع إبقاء آثاره السلبية تحت السيطرة كما حدث منذ اكتشاف النار.