بقلم -عبد المنعم سعيد
فعل الرئيس جو بايدن ما يفعله جنود المظلات الماهرون حينما يركضون بمجرد ملامستهم للأرض دلالة على الاستعداد لمباشرة الاشتباك مع الواقع الذي هبطوا عليه من السماء. استغل الرئيس الأميركي الجديد الزمن بمهارة عندما كان قابعاً في بدروم منزله ساعة احتدام أزمة كورونا، والوقت الذي حصل عليه عندما فاز مبكراً بتسمية الحزب الديمقراطي للترشيح للرئاسة، وما حصل عليه من زمن خلال الفترة التي لحقت بفوزه حينما ترك الأمر كله للعملية السياسية التي تعطيه الثمرة حين يأتي موعد قطفها.
في يوم العشرين من يناير (كانون الثاني) كان بايدن جاهزاً لحلف اليمين، وكان حكيماً عندما قرر الابتعاد عن الأزمة التي ترتبت على أحداث 6 يناير، وما تبعها من الإدانة الثانية لمجلس النواب للرئيس ترمب، ثم محاكمته أمام مجلس الشيوخ. قال في ذلك إن خبرته الطويلة في مجلس الشيوخ تحتم عليه الابتعاد في الأمور التي تخص السلطة التشريعية، كان الرجل أمامه ما يهم في مواجهة الوباء، ومعالجة قضايا انقسمت عندها الأمة الأميركية متعلقة بتقاليدها، وتاريخها مع العنصرية، ومشاكلها الاقتصادية والاجتماعية. كان جاهزاً بقدر ما يستطيع توقيعه من قرارات تنفيذية تقلب الكثير مما فعله سلفه الذي بات تحت المحاكمة رأساً على عقب؛ وقرارات أخرى في السياسة الخارجية تعطي إشارات سبق له التمهيد لها، وتعيد الأمور إلى عهدها السابق فيما يتعلق بالقضايا الكونية المتعلقة بالاحتباس الحراري، والمنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية، ومثلها أمور كانت تكفيها قرارات رئاسية تلغي قرارات رئاسية أخرى قام بها الرئيس السابق. والحقيقة أن الرجل لم يكن لديه تدرج في الطرح من سياسات فينتقل من واحدة وراء الأخرى، ومن عودة التحالف الغربي إلى فاعليته مرة أخرى إلى إشارات تحذير وتدبير تجاه المنافسين والخصوم من الصين إلى روسيا؛ وإنما فعل ذلك كله وأضاف له هجوماً دبلوماسياً كبيراً على منطقة ساد الظن أنها تقع في قاع أولوياته هي الشرق الأوسط.
وأول ما يلفت النظر في اتجاه بايدن نحو المنطقة أن كل ما فعله من تصرفات متناثرة، فإنها تنتظم جميعاً في أنها تتوجه نحو إيران وما سوف يفعله في اتفاقها النووي السابق الذي خرج منه سابقه ترمب، ويريد هو العودة إليه بعد بعض من الشروط. الرجل يعرف بالتأكيد مدى التعقيد ومركب المشكلات التي يعاني منها الإقليم، ولكن تاريخه هو الآخر مركب من خبرة طويلة في التعاملات مع المنطقة منذ حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وما كان فيها من حرب وسلام وثورة، وما أعقبها من تدخلات أميركية فاشلة في أفغانستان والعراق، واتفاق نووي مع إيران خلال إدارة أوباما كان له من نتائج وخيمة ظهرت من تمدد إيراني إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن بالسلاح والمذهب. بايدن يعرف أيضاً ما جرى خلال السنوات الأربع الماضية خلال إدارة ترمب، سواء كان ذلك يتعلق بإيران التي حظيت بالعقوبات أو بالقضية الفلسطينية الإسرائيلية التي حظيت بتأييد الأمر الواقع الإسرائيلي. المنطقة في عمومها يصدق عليها أن كل رئيس جديد في البيت الأبيض تكون نيته الأولى أن يبقى بعيداً عنها؛ ولكنه يعلم كما يعلم مستشاروه أن الشرق الأوسط إذا لم تذهب السياسة والدبلوماسية إليه فإنه يأتي لها بالأزمات والحروب. بايدن قراره الأول أنه لن يكون هناك تورط عسكري للولايات المتحدة، ولذا فلا مفر من العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران مرة أخرى، ولكن الاتفاق الذي خرجت منه واشنطن في عهد ترمب لم تكن الأمور ساكنة بعد الخروج. ما فعلته إيران هو أنها في مواجهة العقوبات استأنفت بعضاً من الأنشطة النووية التي تجعل إنتاجها للسلاح النووي أسرع وأكثر كفاءة، ومعها مضت في تجاربها الصاروخية إلى مدى أبعد مصاحبة بطائرات مسيرة. سلاحها الأكبر هو نفوذها من خلال الحشد الشعبي في العراق، والداعمين لها في سوريا، وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن. وهكذا فإن كل عناصر الحرب قائمة، فإسرائيل لن تسكت، ورد الفعل لن يكون باقة من الورود.
لا يوجد مفر إذاً من تدخل الولايات المتحدة، وأول الغيث تعيين روبرت مالي مفوضاً للتعامل مع الملف الإيراني، وأولى رحلاته كانت إلى أوروبا للمّ الشمل، واستئناف التحالف، والحصول على الدعم والنصيحة. والخطوة الثانية تبريد الحرب في اليمن والإعلان عن رفض أي اعتداء على الأراضي السعودية، وكون الحالة اليمنية كارثة إنسانية بما يفتح الباب للحديث مع الحوثيين الذين رفع عنهم وصف «الجماعة الإرهابية». قلب الموضوع يظل إحياء منع إيران من الحصول على السلاح النووي، ولكن إيران لا تريد مناقشات كثيرة، فواشنطن خرجت من الاتفاق ويمكنها الآن العودة بعد أن ترفع العقوبات. أميركا لا تريد الأمر كذلك، فهي تريد العودة إلى الاتفاق ولكن بأن تعود الأحوال النووية الإيرانية ومعها الصواريخ إلى ما كانت عليه من قبل، وكل ذلك مصاحب بتراجع إيران عن استغلال الفوضى الإقليمية. المسافة بين الطرفين بعيدة، ولكن واشنطن لديها في داخل العقوبات أوراق كثيرة يمكنها أن تتخلى عن بعض منها مقابل بدء مفاوضات بعضها جماعي يعود إلى مائدة 5+1 السابقة، وفي المقابل يتم وضع نهاية مقبولة للحرب في اليمن. وحتى تستمر خطوات تبريد المنطقة فإن الفلسطينيين لن يحصلوا على شيء جديد، ولكنهم سوف يحصلون على كل ما كانوا يحصلون عليه من قبل من مساعدة واعتراف وتمثيل. في مجمل كل قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، تبقى كل الأمور على ما هي عليه ما عدا عدم التأكيد على شرعية ضم الجولان؛ والأحوال جيدة على أي حال، فخطوات السلام والتطبيع بات لها منطقها الخاص.
لهجوم بايدن الدبلوماسي تفاصيل كثيرة، وكما الحال مع كل الحملات الدبلوماسية للولايات المتحدة، فإن لها طبيعة ديناميكية تسفر في النهاية عما لم يكن متوقعاً عند البداية. الدول الإقليمية، خاصة إيران وتركيا وإسرائيل، تعد العدة وترسم الخطط وتحدد الخطوات والاتصالات التي سوف تقوم بها. إيران على سبيل المثال تريد منع العرب من الوجود على المائدة النووية، بينما تريد مفاوضات مباشرة فيها الكثير من الخداع والقليل من الصدق. وهي تعمل على رفع العقوبات مع الحفاظ على مكتسباتها في التنمية العسكرية للصواريخ وتخصيب اليورانيوم عند عودتها إلى الاتفاق السابق. إسرائيل سقفها واضح أنه لا مجال لسلاح نووي إيراني أو صواريخ تهدد أمن إسرائيل، وهي تريد استمرار قوة دفع السلام والتطبيع مع بقاء كل الأمور على ما هي عليه مع الفلسطينيين وفي الجولان. الدول العربية المعنية تحتاج إلى استراتيجية مقابلة تقوم في الأساس على اعتماد الرابطة العربية في التعامل مع واقع جديد يجعل العون الأميركي مرتبطاً بالتدخل في الشؤون الداخلية والاستعداد لمهادنة قوى إرهابية. الأمر في مجمله يحتاج إلى التشاور والتفكير من دون انتظار طويل.