بقلم: عبد المنعم سعيد
وسط المشكلات والمعضلات العالمية العديدة من أول الأزمة/ الحرب الأوكرانية، وحتى أزمة الديون الأمريكية، وما بينهما من قضايا تكاد تلف العالم بأسره شاملة الصين وروسيا ومنطقة الهندو باسيفيك وأوراسيا، حتى نصل إلى النزاع على القطب الشمالى والفضاء الخارجى؛ نجد أن مصر تلقى مكانًا لا بأس به يتسم بالسلبية والتشاؤم الشديد. لم تنجُ المحروسة من المقالات والدراسات والتأملات بينهما التى ترِد بين أسابيع وأخرى فى كبريات الصحف العالمية، ومنتجات مراكز الدراسات الغربية والأمريكية النشطة.
بالطبع فإن تقارير المؤسسات الدولية المالية الأخيرة مثل «فيتش» و«موديز» و«استاندرد آند بورز» لا تسر العين والسمع، وكذلك لهجة صندوق النقد الدولى مؤخرًا ثقيلة اللسان. الحزمة من اللوم والنقد كلها تدور حول الأوضاع الاقتصادية المصرية الأخيرة المتعلقة بسعر الجنيه المصرى والعجز فى الموازنة والميزان التجارى والمدفوعات، وما يترتب على ذلك كله من نتائج ضاغطة على النفس المصرية. المسؤولية عن هذا الواقع يجرى تحميلها كلها على عاتق الإدارة المصرية، مع نصيب خاص للقوات المسلحة، وآخر على النظام السياسى، الذى إذا كان أكثر ديمقراطية وليبرالية وحرية لما كان سيكون مثل دول أخرى فى المنطقة وخارجها التى أتاها «الربيع» باكيًا بالانقسام والحروب الأهلية وموجات اللجوء والنزوح المروعة.
المسكوت عنه فى الخطاب الاقتصادى عن مصر ينفى التأثيرات الكبرى لأربعة أعوام من الاضطراب الداخلى فى مصر، وما يقرب من عشرة فى الإقليم كله، وما ولده من توترات شديدة نجمت عن اختلاط الدين بالسياسة، وموجات التعصب والكراهية والإرهاب. مثل هذه الحالات ولدت كثيرًا من الأزمات الاقتصادية، واحتاجت الولايات المتحدة الأمريكية ما يقرب من ثلاثين عامًا لكى تستعيد ناتجها المحلى الإجمالى السابق على الثورة الأمريكية، وتكرر الأمر بعد انتهاء الحرب الأهلية، حتى إن ما تقرر من تعديلات دستورية لصالح الأمريكيين من أصول إفريقية لم يقدر لهم الحصول عليها إلا بعد مائة عام فى ستينيات القرن العشرين. ما نتج عن الثورة الفرنسية والبلشفية فى القارة الأوروبية وخارجها لم يقل عن ذلك فداحة.
الزلزال الذى حدث فى مصر وباقى المنطقة العربية وتوابعه مسكوت عنه بالكامل فى مخرجات مؤسسة كارنيجى الأخيرة، التى تزعمها الباحث الفلسطينى «يزيد صايغ» ومعه حزمة من الباحثين العرب والأمريكيين المتخصصين فى الدراسات المصرية. لم يكن ما جرى جزءًا مهمًّا من عملية التطور السياسى والاقتصادى المصرى فقط؛ بل إنه كان مؤثرًا فى العلاقات المصرية الخليجية، حيث كانت مصر هى حائط الصد الكبير فى مواجهة الهجمات الأصولية والإرهابية، التى كانت تستهدف المنطقة كلها بما فيها الدول العربية الخليجية. وفى مصر، ونتيجة ثورتها فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ بجناحيها الشعبى والعسكرى، جرى أول انتصار على الموجة الثورية، وتراجعها فى ساحات متعددة حتى حوصرت فى جيوب متفرقة لشمال سيناء وبين المرتزقة فى ليبيا، والمتطرفين فى اليمن. ما جرى خلال العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين بالنسبة لمصر والمنطقة والعلاقات المصرية الخليجية فى قلبها كان مواجهة أصيلة وعميقة لا تقل أصالة ولا عمقًا عمّا جرى عبر عقود فى الصراع العربى الإسرائيلى، حيث كانت حرب أكتوبر ١٩٧٣ التى خاضتها العسكرية المصرية والسورية بمؤازرة من النفط العربى والخليجى خاصة. الفارق فى الصراع هذه المرة أنه لم يكن مع عدوان خارجى، وإنما عدوان على الدول العربية وهويتها ومن داخلها وليس من خارجها.
التحالف الذى جرى قبل عقود كان هو ذاته الذى جرى خلال العقد الماضى، وفى الحالتين كانت مصر فى المركز، وفى كليهما تحملت إرهاقًا لا يحد؛ ولكن العائد النفطى الذى جاء فى الحالتين أيضًا فتح الأبواب لأحلام عربية جديدة فى مراجعة ما سبق من أحوال سياسية اقتصادية واجتماعية نجم عنها نزوع شامل للإصلاح والتعامل مع جذور القضايا وليس هوامشها. جرى تعزيز «الدولة الوطنية» العربية كما لم يحدث من قبل، وفى ذلك كانت مصر تقدم من مخزون خبرتها ومؤسساتها الكثير الذى يجدد البناء الاقتصادى ومعه الفكر الدينى. السكوت عما يفعله الإصلاح من نتائج وانعكاسات حول مواصلة البناء أم التوقف عند مراحل معينة، وتوزيع الثروة أو السعى نحو الاختراق الكبير لحاجز التخلف، كلها أسئلة لا يمكن تجاهلها أو السكوت عن الإجابة عنها. المدهش فيما نُشر وكُتب أن بناء البنية الأساسية والمدن الجديدة فى مصر صارت عورة لأنها ليست قابلة للتجارة أو Untradeable، بينما وجودها فى دبى مصدر للفخر للإمارات والعرب، ووجودها فى التجارب التنموية الأخرى مصدر للضرورة. الأمر يحتاج التفاصيل والنظر فى قائمة المسكوت عنه الطويلة.