بقلم : عبد المنعم سعيد
كانت «فيروز» هى التى رفعت لواء عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم بعد نفى طال منذ عام 1948، وزاد عليه نفى ولجوء آخر بعد كارثة يونيو 1967. غنت العظيمة للقدس وقررت فى عظمة «الآن الآن وليس غدا، أجراس العودة فلتُقرعْ»، ووقتها فإن الشاعر نزار قبانى رد عليها «عفوًا فـيروزُ ومعـذرة أجراسُ العَـودة لن تُقـرعْ»؛ ثم قال بقسوة شديدة «خازوق دق بأسفلنا من شرم الشيخ إلى سعسعْ».
كان الرجل طليعة شعراء وكتاب عرفت الغزير من لطم الخدود، وتعريف الهزيمة الدائمة بالنتيجة الطبيعية لأن المدافع ليست متوافرة، وأنها لو توافرت فسوف تنقصها الأصابع التى تضغط على الزناد. القصة على هذا النحو كانت متكررة منذ عام 1948؛ ولكنها عندما توقفت عن التكرار بعد حرب أكتوبر 1973، واسترداد سيناء كاملة، وتحرير الأراضى الأردنية المحتلة كاملة، ولأول مرة فى التاريخ أفرزت سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية من خلال اتفاق أوسلو الذى تلا مؤتمر مدريد للسلام الذى أعقب حرب تحرير الكويت. التجربة هكذا شهدت على أنه من الممكن تجنب الهزيمة، واسترداد الأرض وبقاء أهلها عليها دون لجوء، من خلال رشد استخدام القوة مسلحة كانت أو سياسية أو اقتصادية أو دبلوماسية.
نضج العرب كثيرًا وجاءهم قيادات تعرف قدر المزج بين أدوات القوة المختلفة، والرفض الكامل للخيار الذى كان سائدًا من قبل ما بين الانتحار أو الاستسلام، وتقديم اختيارات جديدة تستعيد الحقوق وتسمح بدعم عناصر القوة التى تحقق توازنات استراتيجية فعالة على الأرض. لم يكن فى أى من ذلك لا أيديولوجية اليسار الذى تجعل الأمر الفلسطينى معادلة صفرية مع إسرائيل؛ ولا أيديولوجية اليمين التى تجعل ذلك الأمر معادلة إلهية سواء جاءت مصادرها من إيران أو الإخوان المسلمين وفيها من الحماس ما يخلق مقابلا لها على الجانب الآخر يهوديًا هذه المرة.
الفكر الاستراتيجى الناضج يعرف قدراته بقدر ما يعرف قدرات الطرف الآخر ومعادلاته الدولية؛ «طوفان الأقصى» التى جاءت بها «حماس» لم يكن يكفيها تحقيق هزة فى المجتمع الإسرائيلى، وإنما تحتاج مشروعًا واستراتيجية لليوم التالى؛ وليس انتظار ما سوف يطلب من إسرائيل لذات اليوم. جرى ما جرى من كارثة نعرفها جميعا حتى جاء دونالد ترامب ورمى حجره علينا مطالبا مصر والأردن بقبول مليون ونصف مليون فلسطينى وكان الرد طبيعيًا وهو الرفض.
الشعب الفلسطينى فى غزة الذى تعرض لسلسلة من نكبات النزوح طوال 15 شهرا فهم الإشارة أنه لن يباع، وقضيته القومية لن تشترى، ولذا وضع واقعا على الأرض من خلال زحف تاريخى ملحمى فى اتجاه الشمال. لم تكن إسرائيل هى التى تخلق أمرا واقعا وإنما الفلسطينيون بعون عربى حازم ينتظر تقرير ما يحدث فى اليوم التالى للعودة.. فيروز كانت على صواب!.