بقلم : صلاح منتصر
أثار فوز دونالد ترامب، موجة من الارتياح والاسترخاء في أوساط بعض نظم الدكتاتورية والفساد، على اعتبار أن الرجل لم يول للحظة واحدة، أي اهتمام بقضايا التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي ومنظومة حقوق الانسان في المنطقة العربية، وهو كلما استطرد في شرح توجهات إدارته المقبلة حيال هذه المواضيع، كلما اتضح إصراره على إلقاء هذا الملف في سلة المهملات … أمس أضاف أن إدارته ستكف عن المطالبة بالتغيير الأنظمة أو العمل لإسقاطها أو التدخل لإحداث أي تأثير في هذا السياق.
تزامنت تصريحات ترامب الأخيرة، مع كشف موسكو عن “عقيدة سياساتها الخارجية”، وثمة ما يوحي بوجود قدر من التماثل بين السياستين الأمريكية والروسية حيال موضوعات الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ اكدت العقيدة الروسية على مبدأ “سيادة الدول” وعدم جواز التدخل في شؤونها الداخلية، وبما يعيد الجدل الكوني من جديد، حول معنى السيادة وحدودها وعلاقتها بحقوق الانسان وتطلعات الشعوب لانتزاع اختياراتها الديمقراطية.
لا جديد في “عقيدة موسكو الخارجية”، فحفز الديمقراطية واحترام منظومة حقوق الانسان، لم يكونا يوماً مدرجين على جدل أعمال السياسة الخارجية لهذا البلد، حتى في زمن الإمبراطورية السوفياتية … بيد أنها من المرات النادرة، التي تتقارب فيها الرؤى الأمريكية والروسية حيال أمر كهذا … وهي المرة الأولى التي تعلن فيها واشنطن، تخليها عن هذا الملف، الذي طالما استخدمته كرافعة للتغيير، وأداة صلبة للضغط على حكومات وأنظمة سياسية، وصولاً لإسقاطها وإحداث التغيير القسري في بنى الدول والمجتمعات.
صحيح أن الطعن جائز، في جدية السياسة الخارجية الأمريكية حين يتصل الأمر بحفز التحولات الديمقراطية واحترام قيم حقوق الانسان، فواشنطن ذاتها، لطالما ارتبطت بشراكات استراتيجية مع أنظمة استبدادية وفاسدة، وهي لا تزال حتى اليوم، تدرج في قائمة أصدقائها المقربين، أنظمة استبدادية و”قروسطية”.
صحيح أن القليل من العمل والجهود قد بذلت من أجل الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، وأن قيم الديمقراطية ومنظومة حقوق الانسان كانت تسقط على الدوام عند أول صطدام لها مع مصالح واشنطن في الإقليم، وأحياناً مع مصالح أحد حلفائها الكبار …. وصحيح أن “ازدواجية المعايير” كانت السمة الأقرب لوصف سياسات واشنطن وممارساتها في الحقل الخارجي، عندما يتعلق الأمر بهذا الملف بالذات.
لكن الصحيح أيضاً، وبرغم هذا وذاك وتلك، أن واشنطن ظلت تضع في حسابات سياساتها الخارجية ومعايير تحالفاتها، مطالب تتصل بالديمقراطية وحقوق الانسان … أقله على الصعيد اللفظي … وفي بعض الأحيان، كان للضغوط الأمريكية (والأممية) أثراً مهماً في حفز أو عرقلة مسارات التحول الديمقراطي ونشر ثقافة حقوق الانسان.
سيتبع ذلك، بالضرورة، تقليصاً في موازنات المؤسسات السياسية الأمريكية العاملة على نشر الديمقراطية وحقوق الانسان، وستتقلص إلى أدنى الحدود، قدرة هذه المنظمات على تقديم الدعم وإنفاق المال على المنظمات غير الحكومية في المنطقة العربية، وربما تصل مبادرة من نوع مبادر “الشراكة من أجل الشرق الأوسط- ميبي” التي حظيت بدور كبير في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 إلى خواتيمها، وستتأثر بالتوجه الجديد وكالات من نوع “يو إس إيد” و”إن دي آي” و”أر أي أر”، وغيرها كثير.
مثل هذه الأنباء، ستسقط برداً وسلاماً على معظم إن لم نقل جميع حكومات المنطقة وأنظمتها السياسية، الصديقة للولايات المتحدة والمناهضة لها … وستلقي على كاهل مؤسسات المجتمع المدني، بتحديات وأعباء جديدة، ولن يكون كثير من الحكومات، بحاجة للمضي في مشاريعها الرامية فرض قيود إجرائية وتشريعية على الجمعيات والمؤسسات المدنية، وستتراجع كثيراً الحملات المناهضة والمشككة بـ “التمويل الأجنبي” … هذه العناوين كافة، ستصبح وراء ظهورنا، حال استمرار إدارة ترامب على المواقف والسياسات التي يروّج لها الرئيس المنتخب.
ذلك بالطبع، سيضعف إلى حد كبير المجتمع المدني العربي، الضعيف أصلاً … لكن تطوراً كهذا، ربما يكون من نوع “رب ضارة نافعة”، فقد تفضي مثل هذه المستجدات إلى فرز غث هذه المؤسسات عن سمينها … وقد تدفع إلى إعادة الاعتبار للجهود الرامية إلى توفير مصادر دعم مالي ذاتية ومحلية … وقد يترتب عليها، انتعاش ثقافة العمل التطوعي، وقد يعاد الاعتبار لنشطاء المجتمع المدني، بوصفهم مناضلين من أجل قضايا التحديث والعصرنة، بعد أن طغت على أعمالهم مفاهيم تنتمي لعالم “البيزنس” والمرابحة … إلى غير ما هنالك من تداعيات يصعب التكهن بها جميعاً من الآن.