بقلم : عمرو الشوبكي
يحسب لمصر «مساحة ما» من التحضر وبعض المشاهد القليلة التى تعبر عما تبقى من مخزون حضارى فيه من التسامح وقبول الآخر الكثير، ومنه ما جرى مع الرئيس الأسبق حسنى مبارك منذ محاكمته وحتى مصيفه.
لقد عرفت مصر، فى تاريخها المعاصر، تغييرا ثوريا وحيدا، حين تم إسقاط نظام ملكى عتيد استمر 150 عاما وتأسيس النظام الجمهورى على يد جمال عبدالناصر والضباط الأحرار، وهو تحول كانت نتيجته فى كل بلاد الدنيا إعدامات ومذابح من الثورة الفرنسية حتى باقى الثورات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، إلا مصر التى تركت ملكها يغادر البلاد وأطلق له سلاح المدفعية تحية الوادع وهو متجه على يخته منفيا إلى إيطاليا.
وعرفنا نظاما جمهوريا راسخا وقويا حمل بداخله مشروعين سياسيين كبيرين: أحدهما تقدمى وتحررى بقيادة عبدالناصر، والثانى يمينى محافظ بقيادة السادات، وجاء مبارك وأدار البلاد خارج منطق الزعامات الكبرى، وظل رئيسا يدير البلاد بحذر وحرص زائدين لمدة ثلاثين عاما حتى انتشر الفساد فى نهايات عهده، وظهر مشروع التوريث الجارح لأى كرامة وطنية، وقامت ثورة يناير ضد الظلم والفساد ونجحت فى إجبار مبارك على التنحى.
ولأول مرة فى تاريخ بلد مثل مصر يُقدم رئيس جمهورية للمحاكمة المدنية العلنية ويبقى رهن الاعتقال لسنوات، وهو الرجل الذى عاش حياة القصور على مدار 35 عاما منذ أن عينه السادات نائبا له.
محاكمة مبارك كانت مدنية وليست استثنائية أو ثورية حوكم فيها بحمد لله أمام قاضيه الطبيعى وقدمت أوراق ومستندات ودفوع وجلسات مرافعة وحكم ثم استئناف ثم نقض وأدين فى قضية القصور الرئاسية وانتهت فترة حبسه وخرج.
إن المعيار الذى توافق عليه المجتمع، بما فيه أغلب من شاركوا فى ثورة يناير (باستثناء الإخوان وتيارات المراهقة الثورية) كان رفض أى محاكمات ثورية من أى نوع مهما كان اسمها مثلما فعلت كل تجارب النجاح فى العقود الأخيرة من القرن الماضى، وهو ما كان فى صالح الشباب الثورى الذى طالب بهذه المحاكمات، وكان فى حال اعتمادها أول من سيدفع ثمنها فى عهد الإخوان أو فى العهد الحالى.
مبارك مسؤول عن 30 سنة سلبياتها أكبر من إيجابياتها، ولكنه ليس مسؤولا أن ينال هو محاكمة عادلة لا تعطى للآخرين، فهو ليس مسؤولا عن تهريب وزير داخليته لأن الرجل لم يهرب فى موقف يحسب لتاريخه العسكرى كقائد محارب، كما أنه أيضا ليس مسؤولا عن عدم تنفيذ أحكام القضاء بما فيها أحكام محكمة النقض وفق الأهواء والتحيزات السياسية والأمنية.
لقد طوى الشعب المصرى صفحة مبارك وأصبح جزءا من ماضى هذا البلد وتاريخه وهو الوحيد الذى حوسب بطريقة متحضرة من بين حكام العالم العربى، فلم نر إعداما انتقاميا بشعا مثلما جرى مع صدام حسين، ولا قتلا متعمدا ثأريا مثلما جرى مع القذافى، وكل من يريد أن يفتح مصر أمام دائرة انتقام وثأر مجنونة يدمر مستقبلها.
أن يذهب مبارك لمصيف مثل باقى خلق الله ويعيش حياة شبه طبيعية مشهد يحسب لهذا البلد لا عليه، أما عدم تطبيق العدالة والقانون على باقى المتهمين فيُسأل عنه أهل الحكم.