بقلم - عمرو الشوبكي
عدت إلى بيروت، فى زيارة سريعة، هى الأولى عقب «كورونا» والأزمة الاقتصادية، ومع ذلك لم تفقد المدينة بريقها، رغم ما أصاب عملتها من انهيار، فمازلت أذكر كيف أنه لسنوات طويلة كان الدولار يساوى ١٥٠٠ ليرة، وفجأة أصبح يساوى ٨٩ ألف ليرة، وأصبح أى زائر إلى لبنان من أصحاب الملايين، فيكفيه أن يغير ١٠٠ دولار ليصبح مالكًا لثمانية ملايين ليرة و٨٩٠ ألفًا، وربما يتخيل للحظة أنه أصبح مليونيرًا حتى يذهب إلى أى متجر أو مقهى ليكتشف هزال قيمة الملايين التى يحملها.
أما الوضع السياسى، فلا يزال تقريبًا على حاله، فلبنان هو البلد العربى الوحيد الذى يستطيع أن «يمشى حاله» بدون رئيس، فهى المرة الثانية فى ربع قرن التى يشهد فيها «شغورًا رئاسيًّا»، فقد غادر الرئيس ميشيل عون منصبه منذ حوالى العام، وبقيت البلاد حتى الآن دون رئيس.
والحقيقة أن النظام الطائفى الذى تكرس منذ استقلال لبنان جعل المناصب السياسية انعكاسًا «للأعراف الطائفية»، وحتى اتفاق الطائف فى 1989، الذى أنهى الحرب الأهلية، بقى أسير نفس النظام الطائفى، فقد نص على المساواة فى المناصب العليا بين المسلمين والمسيحيين، وفتح الباب لإعمال قيمة الكفاءة على حساب الطائفة والمذهب فى المناصب الأدنى، إلا أن الواقع بقى على حاله، وظلت المحاصصة الطائفية تحكم كل المناصب العليا والدنيا فى لبنان.
مشكلة لبنان أن رغبات كثير من اللبنانيين فى تغيير النظام الطائفى لا تواجه نظامًا سياسيًّا مطلوبًا إصلاحه أو تغييره، إنما منظومة طائفية توزع على أساسها الحصص، التى يصل بعضها إلى «شعب كل طائفة»، والذى لا يزال يمثل شريحة اجتماعية كبيرة ومؤثرة، وربما بصورة أكبر من جماهير التيارات المدنية العابرة للطوائف.
إن حديث رئيس الدولة السابق ميشيل عون وكثير من السياسيين اللبنانيين ومطالبة جزء من الشارع بتغيير النظام الطائفى لا يعنى اختفاءه فى يوم وليلة، إنما سيعنى ضرورة البدء بعملية إصلاح بدأت فى مصرف لبنان، والحديث المهنى للقائم بأعمال رئيسه عن إجراء إصلاحات اقتصادية لم يقم بها سلفه، كما أن حسن أدائه جعل كثيرين يتجاوزون عن خلفيته الدينية والمذهبية (مسلم شيعى) لصالح خطابه العلمى وتوجهاته الإصلاحية.
إن معضلة نظام المحاصصة اللبنانى أنه يقوم على المواءمة بين الطوائف المختلفة، مما فتح الباب لدرجة كبيرة من التسيب والتساهل أمام حالات الفساد وسوء الأداء والإدارة لأنها ظلت غير قابلة للمساس بسبب التوازنات الطائفية الحاكمة، وأن أى مخالف لا يمكن محاسبته من أى شخص أو مؤسسة لا تنتمى لنفس الطائفة أو المذهب، وإلا اعتُبر ذلك اعتداء على طائفة أخرى.
لقد شهد لبنان حروبًا أهلية وانقسامات طائفية، ولكنه غالبًا عاش فى بحبوحة اقتصادية، وباتت الأزمة الحالية ثقيلة على بلد يحب الحياة رغم كل الظروف الصعبة.