بقلم: مصطفي الفقي
ينتابني إحساس بأننا نحن العرب لدينا أحياناً شعور بالنقص تجاه الآخر. صحيح أننا ندرك أننا كنا القنطرة التي عبرت عليها خبرات الفراعنة وعلوم الإغريق وفنون الرومان إلى عصر النهضة الأوروبي، الذي يعتبر القاعدة الأساس للمدنية المعاصرة، نعم ندرك ذلك ويدركه كثيرون غيرنا، بل ولا يختلف اثنان على فضل العرب في ما يتمتع به الإنسان اليوم من ميزات وينعم به من رفاهية. وإذا كان العرب قد ضربوا بسهم وافر في البناء الحضاري، فما بالهم لا يدركون فضلهم على غيرهم، بل على العكس يشعرون بالنقص أمامهم. وتفسير ذلك هو موجات التراجع التي شهدها العرب نتيجة الغزو العثماني للمنطقة وشعوبها في أعقاب عقود الضعف والهوان، التي عاصرت صعود الموالي القادمين من منطقة القوقاز وأواسط آسيا من ترك وشركس، الذين انطلقوا من أصولهم المغولية ليعصفوا بالكيان القوي للدولة الإسلامية أموية وعباسية أو حتى فاطمية، فوقتها بدأ الانكماش ولم يعد للعرب ذلك البريق الذي تمتعوا به من قبل. فالفتح العثماني لمصر عام 1517 على يد الطاغية سليم الأول كان قد نشر الخراب والهزيمة في كل مكان، كما أنه قام بعملية نزح لليد العاملة المدربة في مصر والعمالة الفنية فيها لكي يكونوا نواة لازدهار الترك وسطوتهم على العالم الإسلامي كله، حتى إنه قيل إن الغازي العثماني لمصر قد أمر بخلع أبواب المساجد العتيقة، وجمع المنابر العريقة ودفع بها إلى بلاده بعد أن أعدم طومان باي، آخر رموز القيادات المملوكية على الأرض المصرية. من هنا بدأت نقطة الضعف، وظهر مركب النقص في التفكير العربي على المستويات كلها، حتى أصبحنا الآن نشعر في أعماقنا بأننا متخلفون، بل وأحياناً خارجون عن دائرة العصر على الرغم من الأمجاد الماضية والأعمال الراقية والإبهار الذي فاجأنا به العالم لقرون عدة، إذ إن الطبيعة قد أغدقت علينا ثروات هائلة جعلت لنا شخصية الثري الذي يملك ما لا يستحق وينفق في ما لا يجب، فجرى ظلمنا مرة في ما نزحه الأجنبي من أرضنا والثانية بعدوانه على تاريخنا وتراثنا، ولعلي أبسط بعضاً مما يقف خلف السطور السابقة في النقاط التالية حتى لا يصبح حديثنا غامضاً تائهاً:
أولاً: إن جزءاً كبيراً من محنة الفكر العربي المعاصر وأزمة سياساتنا في كل اتجاه، إنما تنبع من مأساة أقرب إلى الملهاة وأعني بها تكرار الأخطاء والوقوع فيها من دون التعلم من دروس الماضي، على الرغم من أننا أمة يقول دينها (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، فنحن نكرر بامتياز الأخطاء نفسها في الأقطار العربية كافة، فالطيران المصري جرى تحطيمه مرتين وضرب طائراته وهي رابضة على الممرات في المطارات المصرية عامي 1956 و1967، وهذا نموذج رمزي لجزء كبير من أخطائنا التاريخية التي نكررها، ثم نشكو في كل مكان أن الآخرين يتعاملون معنا بغير الاحترام الواجب "لخير أمة أخرجت للناس"، وهنا نفتقد الندية في التعامل مع الغير، ولا ندقق في الحسابات العضوية للعلاقات المتبادلة بيننا وبين غيرنا، ولا مانع بعد ذلك من البكاء على اللبن المسكوب!
ثانياً: لقد تعرضنا في هذه المنطقة من العالم لهجمات استعمارية متتالية في موجات من المغول والتتار والصليبيين وفرسان المماليك وجنود الترك، ثم البوارج الحربية للفرنسيين والبريطانيين، إلى جانب جرائم الطليان في ليبيا، ناهيك عن العدوان المستمر على الشعوب العربية في شمال أفريقيا عندما تفنن الفرنسيون في طمس هويتهم، واستيعابهم في إطار الفرنسة الكاملة تحت مسميات ثقافية معروفة، وعلى الرغم من كل هذه الموجات من العنف والهجمات الظالمة التي تستهدف تقويض التماسك القومي الذي يجمع شعوب المنطقة العربية، والذي يؤدي أيضاً إلى إحساس العرب بالدونية من دون مبرر، ويجعل الندية مفقودة في التعامل مع القوى الكبرى المؤثرة في عالم اليوم، فإننا نرى أن عودة الوعي القومي لدى مراكز صنع القرار في العواصم العربية هو السبيل الأوحد للخروج من المعاناة التي استقرت على أرضنا لقرون عدة، مدركين أن لدينا من الثروات الطبيعية والبشرية ما يجعلنا قادرين على مواكبة العصر والمضي مع التيارات المتقدمة سياسياً وتكنولوجياً على حد سواء.
ثالثاً: يتعين علينا نحن العرب متابعة تطور الأفكار في عالمنا المعاصر وتأثيراتها المحتملة على السياسة الدولية، لأن المستقبل يحمل في طياته تطورات بل ومفاجآت قد تفوق الخيال، مع حزمة من الحروب والأوبئة متوازية مع الترويج للأفكار المشوهة ذات التأثير الكبير في الأجيال الجديدة، خصوصاً ما يتصل منها بمفهوم حقوق الإنسان، بحيث تتضمن المثلية بتبعاتها المدمرة للجنس البشري، والخروج على كل الأعراف والتقاليد والقيم والمبادئ التي قامت عليها الحياة فوق كوكب الأرض. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بالطبع، فالمخاطر المحيطة بالجنس البشري تقع في مقدمتها أيضاً تأثيرات تغير المناخ ونتائجه على العلاقة بين البحر واليابسة، حتى إن هناك من يؤكدون أن نحر البحر سوف يؤدي إلى تراجع الشواطئ بل واختفاء بعض المدن الساحلية. ولأننا جزء لا يتجزأ ممن يعيشون فوق هذا الكوكب، فإن علينا الإسهام القوي في مواجهة هذه التحديات الجديدة، وقد أحسنت الدولة المصرية صنعاً أن قررت استضافة مؤتمر المناخ لعام 2022 في منتجع شرم الشيخ، اعترافاً من العرب بدورهم القوي في مواجهة هذا التحدي الذي يشكل خطراً كبيراً على مستقبل الإنسان بل ومستقبل الحياة على الأرض كلها.
رابعاً: ليس المهم ما نتصوره نحن عن أنفسنا، ولكن الأهم هو ما يتصوره غيرنا عنا، لذلك فإن صورة العربي في الخيال الجمعي للشعوب الأخرى مكون أساس لصورة المستقبل لدينا، ونحن لا نجادل في أن الكون لنا ولغيرنا، ولكننا نطلب درجة متكافئة من الندية التي نتمسك بها في علاقتنا مع كل القوى الكبرى قبل الصغرى، لأن إرادة الحياة هي الأبقى وكرامة الشعوب هي أغلى ما تملك. فالعلاقات الدولية المعاصرة لا تقوم على الحب والكراهية، ولكنها تقوم على الاحترام والمصلحة، وإذا كانت لدينا كروت ننفرد بها ونستأثر بوجودها، فإن علينا أن ندرك أيضاً أن التفريط فيها خطأ يرقى إلى حد الخطيئة وسقوط لا مبرر له، وفي ظني أن الأخذ بأساليب البحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة وتوظيف الثروة العربية لخدمة تلك الأهداف، هو ما يمثل ركيزة المستقبل لعصر لا مكان فيه لأمة إلا بقدر إسهاماتها في صياغته وصنع مقوماته. فالأخذ بالأسباب العلمية في مناحي الحياة الإقليمية والدولية والعالمية كافة، هو ضرورة لتأكيد دورنا والحفاظ على الندية بيننا وبين غيرنا.
خامساً: إن التعليم والتدريب يسهمان معاً في صنع ما يمكن تسميته بالثقافة الجديدة المعتمدة على أطر مختلفة تتعامل مع المستقبل وتتعايش معه. فالتعليم هو معيار التقدم وهو الذي يحدد مؤشرات التحول إلى الأفضل، وإذا كانت الحضارة العربية تعيش على أنقاض حضارات سابقة، فإنها تنصهر معها جميعاً كي تكون بوتقة واحدة هي الوصفة الطبيعية للتقدم، وهي مفتاح الفرج للخلاص من جزء كبير مما نعانيه في هذه المنطقة من العالم.
بعد هذه الملاحظات الفرعية يكون من حقنا أن نحيي درجة الندية التي تعامل بها العرب مع الولايات المتحدة الأميركية في قمة جدة يوليو (تموز) 2022، والتي جاءت انعكاساً لطريقة التفكير التي يجب أن نمضي عليها من الآن، لأن من يفرط في حقه مرة سوف يفرط فيه كل مرة.