بقلم: مصطفي الفقي
حفلت مواثيق حقوق الإنسان بأنماط متعددة وتنويعات ما بين سياسية وقانونية وما بين اقتصادية وإنسانية وما بين اجتماعية وثقافية، لكنها لم تتطرق بوثيقة واحدة إلى حق الخيال لأنه حق مضمون ولا اعتراض عليه ولا تعويق له فهو امتداد للذات والأفكار التي يطرحها الإنسان في سريرته، فقد يقف الخادم أمام سيده وهو يكره اليوم الذي رآه فيه ومع ذلك يقدم له من آيات الاحترام والتوقير ما تستوجبه العلاقة، لكن خيال المرؤوس يظل يمضي في طريقه لاعناً ذلك اليوم الذي عرف فيه سيده ومتخيلاً أنه لو في مكانه وقد تبدلت الأمور وتغيرت الأحوال فسوف يكون له في هذه الحال شأن آخر.
ولا يقف حق الخيال عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى آفاق أوسع ومساحات أرحب من التفكير والتدبير من دون التعبير، وفي ظني أن الفارق بين من يحوزون النجاح ومن يصيبهم الإخفاق إنما يكمن في فقر الخيال وانعدام القدرة على تصور المستقبل واستشراف أبعاده، فالعظماء في التاريخ وقادة الرأي عبر العصور هم أولئك الذين امتلكوا الخيال الواسع الذي يسمح بالرؤية البعيدة ويؤدي إلى استشراف المستقبل، بل إن الأمم العظيمة والشعوب الناهضة سلكت هي الأخرى الطريق ذاته وهي أن يكون لديها تصور شامل وكامل للمستقبل بحيث يتجهون نحوه ويسعون إليه، فالتمسك بمجتمع الأمل هو أيضاً التمسك بحلم المستقبل.
والتاريخ حافل بالأمثلة التي تؤكد ما نقول وتدعم وجهة نظرنا، لقد حلم الإسكندر الأكبر بإمبراطورية كبرى تبدأ من موقع مدينة الإسكندرية المصرية امتداداً إلى بلاد الفرس وهو الذي استبد به الحلم ودفعه الخيال فأدى به إلى القيام بتلك المغامرة الكبرى التي لم يشأ القدر له إتمامها وقام بذلك تلاميذه في حكم البطالمة، ونابليون بونابرت أيضاً تصور أن مصر هي أهم دولة في العالم ويمكن أن تكون ركيزة الشرق لمناوأة الوجود البريطاني البحري على الساحل الأفريقي وفي طرق التجارة المفتوحة نحو القارة الآسيوية، فكل مغامر كبير وكل صاحب رؤية التصق بها إنما فعل ذلك بحكم الخيال الذي تكون والفكر الذي تحقق، ولعلنا نرصد هنا بعض الملاحظات المتصلة بشخصيات تاريخية كبرى للتعرف إلى الرؤية التي امتلكوها والخيال الذي وقف وراء تلك الرؤية وأدى إلى تحقيقها:
أولاً: إن المفكرين العظماء في تاريخ الإنسانية بل العلماء الكبار من أصحاب الاختراعات التي حركت مسار الإنسانية إلى الأفضل انطلقوا جميعاً من ومضات طارئة وبريق خافت للخيال الرشيد لأصحابها. إن سقوط تفاحة أمام العالم الكبير نيوتن أعملت خياله ودفعته إلى البحث في قوانين الجاذبية الأرضية وفتحت آفاقاً ضخمة لمعارف بغير حدود وعلوم لا تنتهي، كما أن نسبية أينشتاين جاءت هي الأخرى من خلال الملاحظة والتجريب وإعمال السوابق في نظريات البحث العلمي حتى استطاع بحكمته وعلمه أن يضع يده على أسرار الذرة وعلومها، ولا ننسى أن إديسون عندما اخترع الكهرباء فعل ذلك من خلال التأمل والفهم العميق للعلاقة بين الطاقة والضوء وقس على ذلك معظم العلماء الأجانب والعرب أيضاً، فالحسن بن الهيثم رائد البصريات قضى ردحاً من عمره يبحث في علاقات الأشعة بالضوء فأصبح اسماً لا يمكن تجاهله في كل فروع الفيزياء، ولا يقف الأمر عند هذا الحد فالطيران الحديث مدين بالخيال الجامح لعباس بن فرناس، وكل التطورات التقنية بدأت من تأملات عابرة أو خيالات بسيطة ولكنها تحولت إلى اكتشافات عظمى وحقائق كبرى أثرت في الإنسانية على الدوام.
ثانياً: إن المهاتما غاندي بروحه القوية على رغم جسده النحيل وبخياله الواسع على رغم الحياة المتواضعة التي كان يعيشها استطاع أن يلهم أمته الهندية أفضل ما فيها وتمكن من أن يصبح الروح الخالدة بعد اغتيال جسده الضعيف فالخيال يصنع الرؤية البعيدة للأمم العظيمة، لذلك فإن الثوار العظام في التاريخ حتى الذين اعتنقوا الفلسفة السلبية إنما اعتمدوا على خيال بعيد يقرأ المستقبل من بين السطور ويدرك دلالات الأشياء وأهميتها في كل وقت، ويجب أن نتذكر هنا طبيعة التأمل في الديانات الأرضية الآسيوية التي صنعت في الخيال الشرقي الأساطير الرائعة حول كونفوشيوس وبوذا وغيرهما، فالتأمل هو صانع المعجزات والخيال هو الأب الشرعي لمعظم الإنجازات.
ثالثاً: إن القارة الأفريقية مدينة في هذه الآونة لروح عظيمة أخرى جاءت من جنوب القارة لكي تضع بصماتها الواسعة على مسار الأحداث وحركة التاريخ، وأعني بها شخصية نيلسون مانديلا بنضالها الصامد ووحدته الرهيبة خلف القضبان لما يزيد على 27 عاماً حتى أصبح رمزاً للنضال الحقيقي، وخرج من سجنه من دون أن يفكر في الانتقام ممن رأى منهم متاعب العمر ومعاناة الحياة بل خرج متسامحاً صفوحاً يفكر في بلاده حتى انتهت على يديه سياسة "الأبارتايد" أو التفرقة العنصرية البغيضة التي عانتها القارة الأفريقية لأعوام طويلة.
ولماذا نذهب بعيداً، فإن زعيماً مثل أنور السادات، بما له وما عليه، أقدم على خطوته السياسية غير المتوقعة بزيارة القدس وخياله يصور له أن المفاجأة ستجعل حكام إسرائيل غير قادرين على التفكير بسبب ذلك القرار الصاعق الذي كان مفاجأة للدنيا كلها، وجنح الخيال بالرئيس السادات لكي يتصور أن إسرائيل ستقول له، "أما وقد جئت إلينا وتحدثت إلى الكنيست فسوف نعيد إلى العرب كل أراضيهم المحتلة وليس سيناء فقط"، ولا شك في أن ذلك الأمر من صنع الخيال ولا يستقيم مع التفكير الإسرائيلي في الغالب لأن العقلية الإسرائيلية ترى الأمور من منظور مجرد قد يجنح إلى الخيال لكنه لا يعيش فيه، فالحركة الصهيونية ذاتها هي تصور بعيد لدولة يهودية مستقلة في الشرق الأوسط.
رابعاً: إن الزعيم الفرنسي طويل القامة شكلاً وموضوعاً الذي يعتبر منقذ فرنسا مرتين، الأولى في الحرب العالمية الثانية والمرة الأخرى بإخراجها من الحرب الجزائرية التي ضحى فيها الجزائريون بصلابة ورباطة جأش يشهد بهما الجميع، وهو شارل ديغول العسكري المثقف والسياسي الفيلسوف الذي يدرك أعماق الأمور ولو من بعيد، ولنتذكر هنا أيضاً ونستون تشرشل والطائرات الألمانية تقصف مدينة لندن وراديو "بي بي سي" يذيع موسيقى هادئة والاستعماري العتيق يقول لشعبه العظيم "ليس لدينا ما نقدمه إلا الدم والعرق والدموع"، إنه خيال بعيد لرؤية عميقة ترى التضحية طريقاً وحيداً للخلاص.
خامساً: إن عتاة المجرمين في التاريخ هم أيضاً أصحاب خيال وإن كان شريراً، فأدولف هتلر حدد ملامح الرايخ الثالث من خلال أفكار عاصفة وتصورات مختلة تقوم على تفكير قومي عنصري يثأر لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ويتوهم أنه قادر على تغيير خريطة أوروبا وفرض سيطرة الجنس الآري فوق ما عداه، ومأساة هذا النوع من الحكام أنهم يكونون أحادي التصور لا يخطر ببالهم الجانب العكسي بل هم أسرى أوهام النصر وحده وأحلام الخلود دون غيرها!
إن الخيال إلهام إيجابي لدى العظماء وإلهام سلبي لدى المرضى بعقولهم وضعاف النفوس بطبيعتهم ولكن يبقى حق الخيال هو أقدس حقوق الإنسان على رغم طبيعته السلبية وآثاره الخفية ورؤيته البعيدة.