بقلم - مصطفي الفقي
لست أنسى وقت الظهيرة كل يوم فى الشقة التى كنت أسكن فيها أنا وزميلى د.محمد عز الدين عبدالمنعم، الذى أصبح فيما بعد مساعدًا لوزير الخارجية المصرية، لقد كنا زميلين فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية نعيش فى تلك الشقة بعمارة فى شارع هارون بالدقى، وعندما كنا نعود من الكلية فى وقت القيلولة للراحة واستئناف الاستذكار كنا نقضى وقتًا فى المساء مع صوت أم كلثوم الذى كان يصلنا من إذاعة تتبع رئاسة الجمهورية حينذاك، وتبث من مبنى الحرس الجمهورى، وكنا نطرب كثيرًا لروائع كوكب الشرق، ونتبادل التعليقات الساخرة حول الأساتذة والزملاء على حد سواء، لأننا كنا ندرك أن من حقنا أن نطلق آراءنا فى تلك السن الباكرة دون مخاوف أو تحفظات، رغم أن المناخ العام كان يتمثل فى تيار واحد كاسح هو تيار العروبة وفكر الناصرية.. وكنا نسهم فى إصدار صحف الحائط على جدران ملحق كلية الحقوق جامعة القاهرة - وهو المبنى الذى كان يستضيف كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - وقد كنت فى ذلك الوقت أمين عام اتحاد طلاب كلية الاقتصاد، وكان أخى العزيز أستاذ العلوم السياسية فيما بعد د.على الدين هلال هو رئيس لجنة الاتحاد الاشتراكى فى الكلية، وقد أصبح بعد ذلك بسنوات أول عميد لها من أبنائها، كما تولى وزارة الشباب فى فترة حافلة من تاريخ العمل الوطنى والنشاط الطلابى.
وقد حصلت على الدكتوراة من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، بينما حصل زميلى د. محمد عز الدين على الدكتوراة من معهد العلوم السياسية فى جنيف، فتحققت بعض آمالنا وتفتحت طموحاتنا فى اتجاه غدٍ أفضل، وقد كنا جميعًا قريبين من أستاذنا الراحل د. عبد الملك عودة مع مجموعة من الزملاء، بدءًا من الراحل طه خليل وكيل المخابرات العامة الأسبق، ومحمد عاصم إبراهيم سفير مصر فى أربع عواصم مهمة، ود. نصار عبدالله أستاذ الفلسفة فى الجامعة والشاعر المعروف.
وذات صباح، دخل علينا د. عبد الملك عودة قاعة المحاضرات ليعلن أنه يهنئ الطالب مصطفى الفقى رئيس اتحاد الطلاب بوظيفته الجديدة، حيث أصبح يعمل (خاطبة) فى الكلية، ذلك أن أحد الأساتذة كان قد لجأ إليّ كرئيس للاتحاد وأبدى رغبته فى التوسط لزواجه من إحدى الزميلات وطلب منى مفاتحتها!، فلما اعتذرت ألحّ وقال لى: إنها ستوافق على الفور، فأنا مدرس للعلوم السياسية فى الكلية عائد من الولايات المتحدة الأمريكية بدرجة الدكتوراة فى موضوع يتصل بطبيعة العمل فى مكتب الرئيس الأمريكى، حتى إن الرئيس جونسون قال له فى حفل تخرجه: «إنك تعرف عن مكتبى أكثر منى»، وعندما ذهبت إلى زميلتى الفاضلة أنقل لها الرسالة على مضض قالت لى بالحرف الواحد: إننى لا أعتب عليه أن يعبر عما يريد ولكنى عاتبة عليك أنت أنك تصورت أنه من الممكن أن أقبل!.
وقد كانت زميلة عزيزة اقترنت بعد ذلك بشخصية رفيعة القدر، وفى تلك الفترة استدعانى د. حسين كامل بهاء الدين أمين الشباب وقال لى: إن السيد على صبرى نائب رئيس الجمهورية وأمين عام الاتحاد الاشتراكى ينتظرك فى الحادية عشرة من صباح الغد - فبراير 1965 - فى مكتبه بمبنى الاتحاد على النيل، فاندهشت لأننى كنت لا أزال طالبًا فى الكلية ولا أعلم ما هو المراد من ذلك اللقاء، وبالفعل ذهبت إليه وتحدث معى يومها - الذى صادف الانقلاب على الرئيس الغانى كوامى نكروما - عن الأوضاع فى إفريقيا، وحركات التحرر فيها، ثم تحدث عن القوى المضادة للثورة المصرية، وضرب مثلًا ببعض العائلات الكبيرة من صعيد مصر ممن استوطنوا حى مصر الجديدة بجوار منزله، وكيف أنه علينا ألا نتوقع أن يكونوا سعداء بالسياسات الثورية والقرارات الاشتراكية، ثم عرج إلى الموضوع الأصلى لسبب اللقاء، وقال لى: إننا قد اخترناك عضوًا فى (التنظيم الطليعى) ضمن وحدة الشباب والطلاب، وأعطانى بعض المطبوعات وتمنى لى التوفيق، فخرجت من مكتبه مثقلًا بما لم أفهم جيدًا، وعدت إلى مبنى الكلية، فوجدت أستاذى د. محمد فتح الله الخطيب وكيل الكلية حينذاك والذى أصبح وزيرًا فيما بعد والذى بادرنى قائلًا: أين كنت؟ فحكيت له ما حدث، فقال لى: إننى أيضًا عضو فى هذا التنظيم السرى للدفاع عن الثورة وإنجازاتها، ولكن الأمر لم يرق لى كثيرًا، فأنا شخص يصعب أن يكون محكومًا بأطر جامدة لم يشارك فى صنعها.
وكانت نهاية عضويتى بذلك التنظيم غريبة.. وتلك قصة أخرى أعترف فيها بما جرى فى العدد