بقلم - بكر عويضة
اشتكى صديق قائلاً إنه يتضايق من نفسه، أحياناً، لكثرة التعلق بما مضى من عصور يسمع بعض أصدقاء له يعطونها وصف «الزمن الجميل». حاولت تخفيف الأمر، فأجبت تلقائياً؛ كلنا ذلك الرجل. فوجئت بنبرة الغضب إذ انتفض هو متسائلاً؛ من تعني بقولك «كلنا»، وما يكون «ذلك الرجل»؟ الحق أنني حرت بم أجيب فوراً، فلجأت إلى الصمت المطبق، ولولا أنه عاجلني يتعجل إجابتي، لاكتفيت بالبقاء في كهف السكوت، أحاول ادعاء تلك الحكمة القديمة جداً، ما سمعت، ولا رأيت، وما قلت، لكن الإلحاح في استعجاله الإجابة لم يترك لي مجالاً سوى الاستجابة، إنما تعمدت توظيف مبدأ «الهجوم خير وسيلة للدفاع»، فبادرت إلى تذكير الصديق بأن «العارف لا يعرف»؛ ومن ثم فليس يساورني إحساس شك، أو ذرة ريب، أنه يدرك أن «كلنا» تعني عموم بني البشر، وأن «ذلك الرجل» مقصود بها الإنسان عموماً، الذكر كما الأنثى. مؤكداً حاسة الاستنباط عندي أنه يعرف بالضبط جواب سؤاله الغاضب، اتفق معي: نعم، صديقي، من ذا الذي لم يجد النفس فجأة تتنفس نسيم ما تولى من أيام العمر، حلوه وأيضاً مره؟
بلا تردد أجبت: الأرجح ما من أحد، إنما هل من جديد أثار شجونك فيما يمر بك من حالات «نوستالجيا»؟ أجاب: ليس بشكل محدد، إنما ضمن حنيني لموسيقى وأغنيات الطرب الأصيل عند العرب، شد اهتمامي قبل أيام على موقع «يوتيوب» فيديو يتضمن إحدى أغاني السيدة أم كلثوم تؤديها بحضور الرئيس جمال عبد الناصر. قلت إن ذلك الفيديو واحد من عشرات مثله، فما العجب؟ صحيح، قال الصديق: لكن الأغلب أنك لن تعثر على ملاحظات تثير حواس التأمل في «فيديوهات» مشابهة، ألا تشاهده ثم تخبرني؟ أجبت؛ نعم سوف أحاول.
في «أمل حياتي» تطلق موسيقى محمد عبد الوهاب العنان لحنجرة «السِّت» فتصدع بشعر أحمد شفيق كامل، في تألق ليس غريباً أنه لم يزل يشد أسماع كثير من الناس، باختلاف فئات الأعمار، وإن بدا بعيداً عن اهتمامات الكثير من شابات وشبان الأجيال الجديدة. في الفيديو الذي أثار شجون الصديق، تعلن مذيعة تلفزيون مصر وصول عبد الناصر، فنرى الرجل بقامته المديدة نازلاً درجات السلم نحو القاعة، ثم متوقفاً، للحظات، محيياً الجمهور، قبل أن يصل لمقاعد الصف الأول فيجلس وإلى يساره زكريا محيي الدين، فيما بقي المقعد على يمينه فارغاً، وبينما يتبادلان الحديث الهامس - بوسع المشاهد ملاحظة التصاق رأسي الرجلين، تقريباً - يصل عبد الحكيم عامر مهرولاً، إذ واضح أنه تخلف عن المجيء صحبة الرئيس، فيتخذ مقعده إلى يمين الزعيم، ويسارع لإشعال سيجارة، فيما ناصر وزكريا يواصلان الحديث، ويبتسمان. بعد لحظات يستدير عبد الناصر نحو عامر، وما أن يبدأ الحديث معه تدخل كوكب الشرق فيعلو التصفيق، وتتَّجه الكاميرا صوب أهل الصف الأول، فنراهم يصفقون أيضاً. تجلس «الست»، كعادتها، وفيما تنتقل الكاميرا بين الصف الأول، والصفوف الخلفية، يمكن ملاحظة كيف أن الجميع يصغي للمقدمة الموسيقية، رغم أنها تطول، وكيف أن الأكف تلتهب بالتصفيق مجدداً، فور وقوف أم كلثوم للغناء.
نعم، تلك مشاهد تحمل من الملاحظات ما يحملك على التأمل، صحيح. احترام رئيس من مستوى جمال عبد الناصر، ومكانته، لقامة غير عادية، مثل أم كلثوم واضح تمام الوضوح. أضف إلى ذلك درجات اعتناء الناس بأناقة الملبس ونظافة المسرح. عندما وصل الأداء إلى: «وانتا معايا يصعب علي رمشة عيني، ولا حتى ثانية، يصعب علي ليغيب جمالك، ويغيب دلالك، ولو شوية»، وجدتني أدقق النظر لأرى هل تذهب الكاميرا نحو وجه جمال عبد الناصر تحديداً؟ كلا، لم يحصل. يهمس صوت محذراً؛ لكنك تسيس عواطف تجيش بها كلمات أغنية، أليس كذلك؟ نعم، تماماً، لكن ما فعلت هو استحضار ما تعلمت في المدارس منذ صباي، ألا وهو تجييش عواطفي كي تنساق وراء قناعاتي. حسناً، ألم تقل لك «الست» ذلك بشكل ما؟ صحيح، قالت: «سيبني أحلم سيبني، يا ريت زماني ميصحنيش». تركت هاجس الصوت المتطفل جانباً، عدت للصديق، شكرته، إذ ذكرني أن السبت المقبل، يوافق السنة الرابعة بعد المائة لميلاد جمال عبد الناصر. زعيم عربي غير عادي. أخطأ مراراً؟ نعم، لكنه أصاب أيضاً. عاش نظيفاً، كمواطن، وقضى زعيماً يحاول لم شمل العرب، وتضميد جرح أردني - فلسطيني، ما كان يجب أن يفتح أصلاً.