فوزية رجب
أنشغل أحيانا بمقولة علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، حين قال: «لو كان الفقر رجلا لقتلته». ومنذ أيام قليلة عاودني انشغالي بما قيل أثناء وجودي في العاصمة الفرنسية في رحلة عمل. وكان تكليفي بإعداد تقرير عن أحوال المهاجرين العرب في فرنسا جزءا من هذا العمل لأسباب تتعلق بالتغطية الإعلامية التي تصل إلى القارئ والمشاهد عن أحوال من ألقت بهم الظروف في براثن غربة لا ترحم.
قبل بدء المهمة نصحني بعض الزملاء بترك كل ما أملك من مال أو مصاغ في الفندق، خشية أن أتعرض للسرقة في أحياء تسكنها تلك المجموعات. كما أوحى إليَّ البعض بأن تلك الأحياء تشبه المخيمات الفلسطينية فيما يتعلق بالفقر العام وقلة الخدمات والازدحام والترويج للمخدرات. وزيادة في الحرص على سلامتي تطوع رئيس فريق الإنتاج بطلب حراسة أمنية تصاحبني في مشوار العمل.
سافرنا بالسيارة إلى ضاحية باريسية هي كليشي سو بوا. وكان من الطبيعي أن أجول ببصري هنا وهناك تأكيدا لما توقعته. غير أن العين لم تلتقط سوى شوارع نظيفة وأشجار معتنى بها ومنازل ذات حدائق صغيرة ومحلات تجارية نظيفة من بينها الخباز والبقال ومحل للأدوات المنزلية.
كان في استقبالي حالتان إحداهما لأسرة تأقلمت واندمجت في الحياة الفرنسية، وحالة أخرى لأسرة ليست راضية بالأحوال. مثّلت الأسرة المندمجة شابة تعمل في قطاع التدريس بالمدارس الفرنسية، أخبرتني بأن والديها هاجرا إلى فرنسا في الصبا وصمما على تعليم أولادهما الستة على أعلى مستوى مهما كلفهما الأمر من كفاح، ونجحا لأن كلا من إخوانها وأخواتها تعلم بما أن التعليم إجباري ومجاني في فرنسا إلى سن السادسة عشرة. وكانت الأم متفرغة لتربية أولادها وشحنهم بالطموح، بينما عمل الأب في مهنة تتناسب وإمكاناته الثقافية البسيطة التي حملها من الوطن الأم إلى بلد المهجر. وأثمر الكفاح، واندمج الأولاد المتعلمون في النسيج الفرنسي ما بين البنت المعلمة وأحد أشقائها المعماري المرموق. جلست معهم في صالون الفيللا الصغيرة التي منحتها لهم البلدية مجانا وأكلنا البغرير والفطير، وشربنا كئوسا من الشاي المغربي الأثير. وانتهى الحديث بقولها، إن فرنسا أضحت وطنا ثانيا، وإنها جد فخورة بجذورها المغاربية قدر فخرها بكونها مواطنة فرنسية لها كل الحقوق وعليها كل الواجبات كأي مواطنة فرنسية.
سرنا مسافة بسيطة إلى ناحية من النواحي التي سبقت في استقبال الهجرات العربية من الأيدي العاملة إلى فرنسا في نهايات القرن التاسع عشر. أعترف بأن الإسكان لم يكن على نفس الدرجة من الرقي. فقد كانت البنايات متعددة الطوابق، والشقق تفتقر إلى ضياء الشمس، ولكنها كانت مناسبة لسكنى ومعقولة، وهناك آلاف من الوحدات السكنية تماثلها في المدن العربية يسكنها المواطنون بعد أن يدفع رب الأسرة تحويشة العمر ثمنا لها، بينما يحصل المهاجر على إحداها في الضواحي الباريسية مجانا على نفقة الدولة. لم تكن مداخل البنايات على درجة كبيرة من التنسيق والنظافة. وسرعان ما فطنت إلى أن العنصر البشري مسؤول عن هذا التجاوز. فإن كانت البلدية تتبرع بالمسكن فلا أقل من أن يعتني الساكن بنظافة بيته.
جلست إلى رب الأسرة أحاوره، وبدأت بسؤاله متى وصل إلى قرار الاغتراب؟ وفهمت أن ثلاثين عاما قد مضت منذ وصوله. فعنَّ لي أن أسأله عن أسباب عدم الرضا عن الأحوال العامة، فأخبرني بأنه جاء ليعمل في قطاع الإنشاء والبناء، ولكنه انقطع عن العمل منذ سنوات لأسباب صحية، ومن ثم اضطر للاعتماد على المعونة المالية التي تصرفها له الدولة. فلم يسعني إلا أن أسأله عن قدر المعونة التي تصرفها له الدولة. فتطوع بقوله إنها تزيد على الألف يورو بمائة أو مائتين.
في تلك اللحظة نشط الكومبيوتر الذهني نشاطا يفوق نشاطه المعتاد بما أنني مواطنة مغتربة في دولة أخرى عملت ودفعت ضرائب وتأمينات تنص عليها القوانين ثم تقاعدت وأصبحت ممن يتقاضون معاش التقاعد. أسعفني الكومبيوتر فأشار إلى أن معاش تقاعدي هو بالفعل أقل من المعونة التي تصرفها الحكومة الفرنسية لمحدثي.
أنهيت حواري معه بسؤال: هل تظن أن أحوالك العامة أسوأ مما كان يمكن أن تكون عليه لو أنك آثرت العدول عن قرار الهجرة؟ فقال إن كل شيء بيد الله. فقلت له: بالتأكيد، ولكن الإنسان مخير فيما يفعل. فقال: كلا، الأحوال هنا ليست سيئة، ولكن الجيل الجديد يطمح لما هو أفضل، وعليه أن ينتزع ما له من حقوق. إنه جيل يرفض الانصياع لصرامة القوانين إلى أن يحصل على ما يريد. الشاب يريد أن يكون طبيبا أو محاميا، ولكن الأعمال المتاحة له بسيطة.
وهنا تذكرت ما قالته لي المعلمة المغربية من أن التعليم إجباري ومجاني إلى سن السادسة عشرة، ولكن مشكلة الشباب العربي في فرنسا هي معدلات التسرب من التعليم. وهل يمكن أن أكون طبيبة من دون دراسة الطب؟ ولو رغب الشباب في ممارسة الطب والمحاماة عليه أن يواصل التعليم حتى يصبح طبيبا أو محاميا، بدلا من الهروب من المدرسة والتجول في الشوارع بلا أمل في مستقبل يرضيه والتعبير عن الغضب أو إثارة الشغب.
الصغير في رأيي قد يبدأ صغيرا ثم يكبر ويجبر المجتمع على احترامه، والدليل هو أن الحكومات الفرنسية احتفت بوزيرتين من أصول عربية، والبرلمان وقطاع التجارة والأعمال تزهو بعدد آخر من هؤلاء. ولكن الأسهل هو أن نلوم الفقر وامتناع الحكومات المتعاقبة عن تنمية الضواحي الفقيرة.
اقتنعت بأن الفقر نسبي، ولعله يكون حالة فكرية تقنع من يعد نفسه فقيرا بأنه مسلوب الحقوق لأنه يرفض تحمل مسؤولية الفعل.