علي ربيع
يُعدُّ الرحَّالة والأديب اللُّبناني أمين الريحاني واحدًا من أهمِّ مَنْ كتبوا عن اليمن في العشرينيات من القرن الماضي، ولا يزال كتابه (ملوك العرب) واحدًا من أهمِّ المراجع التي يهرع إليها الدارس للتاريخ اليمني المعاصر، أو الباحث في أدب الرحلات، أو المُهتمّ بالسياسة والجُغرافيا، أو المحتفي بتقصِّي الأنثروبولوجيا في الجزيرة العربية.
لقد أراد الريحاني أن يطوف البلاد العربية ليُقنع ملوكها بالوحدة العربية، ناصحًا أمينًا بالأخذ بأسباب الحياة المدنية المعاصرة، لما فيه تقدُّم الأُمَّة العربية وازدهارها، وكان كتابه (ملوك العرب)حصيلة تلك المُهمَّة التي اضطلع بها إلى الحجاز، أوَّلاً، ثُمَّ اليمن وعسير ونجد والعراق. ولعل المُتمعِّن في كتابه هذا سيجد نفسه أمام شخصية فذة ذات ثقافة موسوعية وفكر متين وقلمٍ ينداح رقَّةً وإبداعًا.
ورغم أنَّ الكتاب يحكي لقاءات الريحاني مع الملوك العرب ومُحاولاته معهم من أجل لمِّ صفّ الأُمَّة العربية، إلاَّ أنَّه أكثر من ذلك، وثيقة تاريخية وأدبية واجتماعية لا غنى عنها، بعيدًا عمَّا أُثير وما يُثار من لغطٍ حول رحلات الريحاني للبلاد العربية والاتِّهامات التي وُجِّهت إليه بالعمالة والجاسوسية للأمريكيين أو البريطانيين، فليس آخر متهميه مجدي الدقَّاق ، وليس أوَّلهم الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي، وهذا وغيره ليس محلّ نظرنا هُنا، بل سنكتفي بقراءة ما كتبه الريحاني عن اليمن في كتابه سالف الذكر، للخُروج بإجابةٍ على السُّؤال المطروح : كيف رأى الريحاني اليمن في عام 1922م؟ أو كيف كانت اليمن في عُيون الرحَّالة، العربي الهُويَّة، الأمريكي الجنسية،أمين الريحاني؟
لقد كانت اليمن بالنسبة لـ الريحاني وغيره، مجهولاً لا يُعلم بسُهولة، وكانت الصُّورة قاتمةً إلى أبعد الحُدود، وما يتوافر من معلوماتٍ وأخبارٍ لا تصبّ على الإطلاق في خانة التشجيع على زيارة اليمن وارتياد مُدنها وسُهولها وجبالها، وكانت أولى تلك المصدَّات ما سمعه أمين الريحاني من يمنيٍّ في نيويورك عن اليمن، فتشكَّلت لديه الصُّورة الذهنية الأولى بناءً على هذه الرواية :
* "بلادنا طيِّبة الهواء والماء، لكنَّ أهلها دائمًا في احتراب (...)، حاربنا الأتراك، وحاربنا القبائل، وحاربنا الإدريسي، ويُحارب دائمًا بعضنا بعضًا".
*- "ثُمَّ سألته ما إذا كان من أجانب في اليمن، فقال : لا، وإنَّه لا يُؤذن لهم لا بالذهاب ولا بالإقامة هُناك".
- وإذا جاءكم الأجنبي؟
- واللَّه نذبحه.
- وإذا ساح مُتنكِّرًا؟
- إذا عرفناه، فوا لله نذبحه.
- أوما يُؤذن للسُّوري وهُو عربيٌّ مثلكم؟
- إذا كان مسيحيًا فهُو والفرنجي سواءٌ عند أهل اليمن، وقد يحميه لسانه أو يُصرف النظر عنه."
هذه هي اليمن كما تلقاها الريحاني من أوَّل يمنيٍّ صادفه في نيويورك، قبائل يحكمها الإمام، مُتحاربةٌ مع غيرها ومع نفسها، ومُجتمعٌ لا يقبل الأجنبي ويعيش في عُزلةٍ مُطبقة، وقد عزَّز من هذه الصُّورة لدى الريحاني تلك التحذيرات المُتعدِّدة التي تلقَّاها من أصدقائه ومعارفه ومن السُّلطات الأمريكية والإنجليزية، التي كانت ترى السفر إلى اليمن مُغامرةً خطيرةً جدًَّا، بل هُو - حسب تعبير صديق الريحاني ، نعُّوم شقير:"مُستحيل".
و كانت اليمن آنذاك مُبعثرةً شذر مذر، فالإنجليز في عدن، وإلى جوارها تسع محميَّاتٍ يحكمها سلاطين باسم الإنجليز وإرادتهم، أمَّا عسير والحُديدة، فتحت قبضة الإدريسي ، بينما يضع الإمام يحيى يده على ما بقي من الرقعة التي تركها الأتراك العُثمانيون بعد رحيلهم عن اليمن، عقب الحرب العالمية الأولى عام 1918م.
لم تثنِ المخاوف ولا التحذيرات ولا المُعوِّقات أمين الريحاني عن تحقيق بُغيته في السفر إلى اليمن، لقد كانت قضاءً مُبرمًا أكَّدته إرادة الريحاني وعزمه، فوصل عدن في مارس عام 1922م ببدلته الإفرنجية وشاله وعقاله بمعية صديقه وابن بلده (قسطنطين يني)، الذي رافقه بجوازٍ حجازيّ، وكان يعمل في بلاط الملك حُسين مُلازمًا في الجيش.
ومن عدن صعَّد الريحاني، مُرورًا بلحج إلى المسيمير، وصولاً إلى ماوية، أولى معاقل النُّفوذ الإمامي، ومنها إلى إب ويريم وذمار وصولا إلى صنعاء دار الإمامة التي غادرها يوم رحل إلى مناخة وحراز وباجل، مُستقرًَّا في الحُديدة، ومُنطلقًا منها إلى شمالي تهامة في جيزان، حيثُ معقل الإدريسي ، ومُرتدًَّا منها إلى الحُديدة، فعدن ولحج، وفي كُلِّ تلك الأصقاع وعبر تلك المدن والقُرى استوقف الريحاني كُلّ شيءٍ رآه أو سمعه أو قرأه، ابتداءً من الطبيعة التي استحضرها بكُلِّ مظاهرها وحيواتها، وانتهاءً بأعماق الإنسان ودخائل المجتمع التي استغورها بشكلٍ بديعٍ ودوَّنها وعلَّق عليها مُستحسنًا أو مُستقبحًا أو مُتحيِّرًا.
لقد صوَّر لنا الريحاني الطبيعة في اليمن آنذاك، فوصف الوديان والجبال والسُّهول والأشجار والنباتات والمزروعات، ودوِّن أحوال الطقس وتقلُّبات المناخ حسب اختلاف التضاريس، مُسجِّلاً ارتفاعات الجبال والقمم، مصورا لنا أحوال العمران والبيئة المستحدثة بفعل الإنسان، حيث وصف المدن والبيوت بمعمارها وغُرفها وأقسامها وبساتينها، و المأكل والمشرب والملبس وما يدور في حياة الناس الذين يُقابلهم، ثُمَّ ما وراء ذلك من أحوال المعيشة والسياسة والحُكم والاختلافات البشرية، حسب كُلّ منطقةٍ يزورها، حيثُ تتنوع العادات والتقاليد ووسائل الحياة، متوغلا في طرائق التفكير وأنماط الخطاب وتصنيفها واستكناه الأبعاد النفسية والعقلية للبشر، مازجًا كُلّ ذلك بوجهة نظره الشخصية، مُدعَّمةً بوقائع التاريخ أو سُلوك الناس، مُلتمسًا في تدوين ذلك قالبًا أدبيًا ولُغةً جميلةً فيها الشِّعْرِيّ الرقراق، والسردي الآسر، فيها الحوار والمونولوج والاستطراد، وبين كُلِّ هذا وذاك لطائف من البيان ونوادر من البديع.
وغير خافٍ على قارئ هذه الرحلة لـ الريحاني وَلَعه باستعمال ألفاظ اللَّهجة المحلِّيَّة والتعليق عليها وشرح بعض المفردات اليمنية، وكان ذلك من الدواعي التي أوقعته في بعض أخطاءٍ نُطقيةٍ وإملائيةٍ في أسماء الأماكن أو الأشياء، فمثلاً كان يُسمِّي جبل «نُقم» : «لُقم»، ووادي «تُبن» : «دُبن»، وجبل «عَصر» : «عُصُر» - بضمّ العين والصاد - و«الزلط» : «الظلط»، والدُّخن : «الدُّخان» وغير ذلك كثير.
وإذا كان استيضاح الصُّورة الكُلِّيَّة لليمن في عين الريحاني آنذاك هي بغيتنا، فلا شكَّ أنَّ الحُصول عليها يستدعي التمييز بين أكثر من صُورةٍ، للوصول من خلال جُزئيات النظر إلى العُموم، وهُو عُمومٌ من الصعب أن تصفه كُلّه بالإيجاب أو السلب، نظرًا لتداخل الحسن والسيئ والجميل والقبيح، فهُناك صُورة اليمن السياسية، وصُورتها الطبيعية، وصُورتها الحضارية، وصُورتها الاجتماعية، وصُورتها الاقتصادية، وصُورتها الثقافية والعلمية، ومن كُلِّ تلك الصُّور تنبثق صُورٌ أصغر تتَّفق أو تختلف، تنبو عن بعضها أو تلتحم، وكان الريحاني يُحاول في عملية التقاطه لهذه الصور أن يُنوِّع في مصادرها أو منابعها، فهُو يستنتجها تارةً من خلال مُلاحظاته ومُشاهداته، أو من خلال تدوين شهادات أشخاص، أو من خلال قراءاته واطِّلاعه.
فالصُّورة الطبيعية لليمن رسمها الريحاني في إهابٍ مليحٍ كان يتماشج مع رُوحه، فيندى الوصف مديحًا مُسكرًا، كما فعل مع مدينة صنعاء "أجل، إنَّ صنعاء في محاسنها لا تُخيِّب للزائر أملاً، وكُلَّما دنوتَ منها، وهُو عكس الحقيقة في أكثر المدن، ازداد رونقها وازداد إعجابكَ بها، هي في مقامها الطبيعي فريدةٌ عجيبة، فيها الهواء أعذب من الماء، والماء أصفى من السماء، والسماء أجمل من حُلم الشُّعراء"، وغير ذلك ممَّا حظيت به صنعاء لدى الريحاني من وصفٍ بديعٍ.
وكذلك الحال مع مدينة إبّ، فهي "كأنَّها حفنةٌ من اللُّؤلؤ على بساطٍ أخضر مفروشٍ في بُحيرةٍ جفت مياهها"، لكن بسبب الصُّورة السيِّئة للواقع الإداري والسياسي والثقافي والاقتصادي، تتشوَّه هذه الصُّورة حينما يُمعن فيها الريحاني عن كثب، فهي - حسب الريحاني -تروق الناظر من الخارج، فقط، أما من الداخل فهي" وسخةٌ ومُزدحمةً" وليس فيها مدارس غير مدارس تعليم القُرآن، "وليس فيها أحدٌ من الأطبَّاء ولا نُقطة ولا حبَّة من الدواء، ويكثر فيها الجدري والحُمَّى والقات". أمَّا الحُديدة، فقد أسف الريحاني لحالها وما حاق بها من الخراب والدمار، فصوَّرها في صُورةٍ مأساويةٍ يُمكن للقارئ أن يعود إليها بنفسه ليطَّلع عليها بالتفصيل.
ويرسم الريحاني صورة اليمن السياسية، فنراها مُجزَّأةً، وفي كُلِّ جُزءٍ صُورةٌ أو صُور، فعدن تحت مشيئة الإنجليز، والمحميَّات كذلك، إلاَّ أنَّها، صُوريًا، تحت حُكم سُلطانٍ يمنيٍّ يأخذ مُشاهراته بـ"الرُّوبية" من الإنجليز. هذه السلطنات قبائل متربصة ببعضها، وكُلُّها مُحتربةٌ مع الإمام، أما الحُديدة فسلمها الإنجليز بخرابها ووعثائها لـحليفهم الإدريسي المحترب - أيضًا - مع الإمام، وكانت بقية المناطق التي يحكمها الإمام ترزح تحت وطأة ولاة جائرين يُمارسون الظُّلم باسم سُلطة الإمام ذات المرجعية الدِّينية والمذهبية في قُوَّتها، وقد لخَّص أحد الجُنود الذين رافقوا الريحاني الواقع الإمامي بعد مُقارنته مع الأتراك والإنجليز والطليان، بعبارةٍ وجيزة تسمه بأنه واقع ليس فيه : "لا مال ولا نظام ولا لطيف كلام (...) نحنُ في اليمن فُقراء، وحُكم الإمام يزيدنا فقرًا".
إنه الواقع السياسي ذاته الذي فرَّغ الإنسان من قُدرته وعطائه، وأحكم عليه آفاق الأرض بقُيود العُزلة والانغلاق والخوف من الآخر والتوجُّس منه تحت ذريعة الدِّين المُغلَّف بالجهل، فتجد مَنْ يقول لـ الريحاني بأنَّهم في اليمن سيُسقطون الطائرات الإنجليزية المغيرة بسورة"الفاتحة" فتخر من علوها كالطير المذبوح.
وتجد مَنْ يُفاخره بأنَّ اليمن وحدها من بين العرب والعجم على الصراط المستقيم، لا فُسق فيها ولا فُجور، لكن ستجد في الوقت ذاته،على لسان جُنديٍّ أو عاملٍ بسيطٍ مَنْ يرفض هذا الواقع ويُدينه، ويقول للريحاني معجبا ويائسا في آنٍ: "الإفرنج أصحاب عُقولٍ ذكيَّة، وهُم يستخدمونها في كُلِّ شيء، ونحنُ لا نستخدم عُقولنا إلاَّ في الحُروب (...) أهل اليمن يا أمين يغارون جدًَّا على دِينهم، ويظنُّون أنَّ ليس خارج بلادهم غير الكُفر والكُفَّار، ولكنَّني سأُسافر إن شاء اللَّه، وإن كفرت".
هذه الصُّورة للواقع هي مُحصِّلةٌ للسياسة والثقافة والمجتمع، لكنَّ اليد الطُّولى فيها للسياسة الظلامية الخائفة والمُتوجِّسة، المحتمية بنظام حكم يصفه الريحاني بأنه "قاس وشديد، بل حكم اشتباه وارتياب"، وهي السياسة ذاتها التي أفرزت ثقافةً اجتماعيةً تُمارس أشدّ أنواع القمع ضدَّ المرأة، وإن لم يقلها الريحاني صراحةً، لكنَّه بتعريضه كان أبلغ حين قال وهُو يحكي عن الطريق إلى الحُديدة : "بدأنا نشعر بعد خُروجنا من صنعاء بوجود النساء في العالم".
تتداعى مع هذه الصُّورة صُورة الثقافة الاجتماعية القبلية، التي يُحمِّلها الريحاني وزر التخلُّف، ويرى أنَّها مُعضلة اليمن - التي لا يزال اليمن اليوم يُعاني من آثارها وترسباتها- حيثُ يحكم الريحاني التشخيص والقراءة، فيرى أنه لولا هذه المعضلة المُتمثِّلة في أمرين اثنين، لكانت الصُّورة أبهى وأنضر،" الأوَّل هُو الجهل، والأمر الأكبر هُو الجهل المُسلَّح»، هذا الجهل، وهذا الجهل المُسلَّح، هُو واقع مُجتمعٍ قبليٍّ مُحتربٍ أو مُستعدٍ للاحتراب، وهي كلها معطيات جعلت الريحاني منقادا إلى استنتاج مؤداه يقضي في ظُروفٍ كتلك، بأنَّه "يندر في البلاد ذاك الغرس الطيِّب، غرس الوطنية المُجرَّدة من المصالح الذاتية"، هذه النتيجة التي توصَّل إليها الريحاني في عام 1922م، عاشتها اليمن حقيقةً مُرَّةً بُعيد ثورة 1962م مُباشرةً، وظلت تؤجج الحرب قرابة سبع سنوات، إنَّها القبائل المُدجَّحة بالجهل المُسلَّح، وما يتولد عنها من ندرة في غرس الوطنية المُجرَّدة من (الأنا), ووجود نقيضها المتمصلح على حساب الوطن.
وإذا كانت هذه الصُّورة التي يؤطرها الريحاني للجهل المُسلَّح ذات منزعٍ أنانيٍّ يتقصَّد تحقيق النفع الذاتي، وهي الأغلب - ولا يزال اليمن يعيش بقايا منها - فإنَّ صُورةً أخرى تتبدَّى عبثيةً، تحكمها العصبية العمياء، التي تجعل المحتربين لا يدرون لماذا يحتربون، إنَّها مجَّانيَّةٌ عجيبة ومؤلمة يصفها أحد الأشخاص الذين التقاهم الريحاني في زيارته تلك ، فإذا شبَّ القتال بين بيتين في قرية، ينقسم أهلها فريقين إلى المتقاتلين، فتشبّ نار الحرب، وعندما تنطفئ يتساءلون :" وما السبب في القتال بين فُلانٍ وفُلان، يُقاتلون أوَّلاً، ثُمَّ يستعلمون"!
هذه القبائل كانت بحاجةٍ إلى العلم والتمدُّن، وهذه الثقافة لا يُستقوى عليها إلاَّ بقُوَّة الثقافة وقُوَّة الدولة والنظام، لأنَّها ضدَّ أيَّة مدنيةٍ قد تتحقَّق، وهي حقيقةٌ أخرى استنتجها الريحاني من الواقع الاجتماعي للقبيلة في تهامة، فكان يرى "أنَّ مثل هذه القبائل العاصية العاتية المتاجرة بقُوتها، ومثل هذه المدن المُنحطَّة في حُرِّيَّتها واستقلالها، لأكبر العقبات في سبيل القومية الناهضة والوحدة العربية".
إنَّ الثقافة الاجتماعية بصُورتها التي يراها الريحاني، تغلغلت في الوعي الاجتماعي، فهيمنت على السياسي وصارت جُزءًا لا يتجزَّأ منه، فصارت مُبرِّرات الانتصار لـ (الأنا) المشفوعة بالقُوَّة هي المُتسيِّدة، قد يكون المُبرِّر في إهابٍ دِينيّ، كما هُو حال النظام الإمامي، وقد يكون في لباسٍ براجماتيٍّ مُتجرِّدٍ من القِيَم الثقافية القومية أو الدينية، كما هُو حال سلاطين المحميَّات، الذين ينتفعون من الإنجليز ويُوالونهم ويحذرون من الإمام ويُعادونه وفق فلسفة جاهر بها السُّلطان الحوشبي لـ الريحاني : "القلب يعرف الأخ يا أمين، والسياسة لا تعرف غير الضرورة"، هذه السياسة في عطائها ومنعها وولائها وبرائها،كانت تستغلّ نيران الجهل المُسلَّح وتُذكيها، جاعلةً من الفرد صُورةً لا تعي ولا تعقل ولا تعني لها الحياة شيئًا، كما هُو حال جُنديّ القبيلة، الذي أورد له الريحاني هذه الصورة : "البُندق على كتفه، والموت قُدَّامه، ولا يعرف في اللَّيل إذا كانت تشرق عليه الشمس".
وإذا استطردنا في إبانة الصُّورة أكثر فلن نجد دالاًّ مثل هذا القول لـ أمين الريحاني : "كأنَّكَ في السياحة في تلك البلاد السعيدة، قولاً وتقليدًا، تعود فجأةً إلى القرن الثالث للهجرة، لا مدارس ولا جرائد ولا أدوية ولا أطبَّاء ولا مُستشفيات في اليمن، إنَّ الإمام لكُلِّ شيء، هُو المُعلِّم والطبيب والكاهن، هُو الأب الأكبر"، هذا الوصف يدعمه الريحاني بعبارة نقلها عن أحد السادة الذين خدموا الإمام تقول: "حياتنا هبةٌ من اللَّه، ونحنُ نهبها للإمام، لا نربح ولا نخسر".وصولا إلى هذه الخلاصة الكاريكاتورية التي يدمغ بها الريحاني هذا الإمام الذي يعيش في القرن الثالث عشر الميلادي ومع ذلك" يجلس على فراش الملك كما كان يجلس أجداده في القرن الثالث ويأذن بتقبيل يده وكفه وركبته ورجله بل يأكل فوق ذلك القات ويشرب من الماء ويحمد الله ولا يقف مسلما إلا لواحد في ملكه" .
كما صوِّر الريحاني ما استنتجه وما سمعه عن شُحّ الإمام (ملك اليمن الزيدي) ونظامه الاقتصادي، فهُو "يُكثر الضرائب ويدَّخر الأموال، فتقلّ، ولا غروّ، في أيدي الناس، فتُسبِّب وقوف الأشغال وعُسر الأحوال"، وبسبب هذا الواقع السياسي تنبَّأ الريحاني آنذاك بالثورة على الإمام: "أجل، إنَّ الناس مع الإمام اليوم ومع أعدائه غدًا"، وهُو تنبُّؤٌ مبنيٌّ على مُعطيات الصُّورة التي رآها الريحاني في عُمومها لنظام الإمام وليس لشخصه، الذي أقطعه أكثر من صُورةٍ تتجلَّى في رداء العلم الذي يشوبه التعصب أو الحكمة التي تضعفها العقيدة، إلى آخر ذلك مما ورد في سياقات مختلفة رآها أو سمعها أو استنتجها، وهي حال الريحاني مع كُلِّ الملوك العرب الذين زارهم وحاول أن يقرأ أفكارهم ويُقرِّب وجهات نظرهم في سبيل وحدةٍ أرادها لتعصم العرب من ويل التخلف وانتهازية سياسة الانجليز القائمة على قاعدة المبدأ المرن في كسب الولاءات واتِّقاء العداوات بالدرهم والدينار للحفاظ على مصالحها بأقلِّ الخسائر.
لقد صوَّر الريحاني في رحلته عن اليمن ما رآه وأرادنا أن نراه معه اليوم، كتلك الفُسيفساء في مُجتمع الحُديدة المُتنوِّع الهجين من دماءٍ وأعراقٍ شتَّى، وكالصُّورة المُتعمِّقة التي رسمها عن التصوُّف وأحواله وتاريخه، وفي ثناياها تلك الحلقة التي حضرها لإحدى الطُّرق الصُّوفية في الحُديدة، ونقلها لنا بتفاصيلها، وصولاً إلى قناعته بأنَّ "التصوُّف اجتهادٌ شخصيٌّ ونعمةٌ فردية، لا تُورَّث ولا تُعلِّم ولا تُنشر بالإجازات".
وإمعانًا في التقاطه للصُّور، نقل إلينا الريحاني أشتاتًا منها عن العادات والتقاليد، عن تفاصيل الملابس التي يرتديها جُنديّ الإمام، وعمَّا ترتديه فتاةٌ في باجل أو في الطريق إليها، راسمًا تفاصيل حُسنها وقدِّها، عن الشمس الملتهبة في تهامة، وعن القمم الشمَّاء في مناخة وصعفان، مُدقِّقًا في السماسر والمقاهي، مُستطلعًا أحوال الأسعار، وإيجارات المنازل، مُستحضرًا سُلوك الناس ومقيل القات وطُقوسه، وطُرق التحيَّة والسلام، ولُغة الخطاب والمراسلات، تلك اللُّغة التي تكشف عن نوعية ثقافة المجتمع وعن طبيعة علاقة الحاكم بالمحكوم.
كما لم يُفرِّط الريحاني في نقل رقائق شمائل اليمنيين وذكائهم، ولا في تصوير الحياة والسياسة والتاريخ في لحج والمحميَّات التسع، أو التدقيق في سحنات الوجوه ومعالمها واستقراء نفسيات أصحابها، ساخرًا حين تستوجب الحال، ومُثنيًا حين تنتابه أريحية المشهد، مُستنبطًا الفوارق السُّلوكية في المجتمع على أساس البيئة ونوعية الثقافة، وعقد المقارنات بين البُلدان أو الأشخاص، ومن هنا كان استنباطه بأن "العظمة والمحسوبية في صنعاء أشدّ منها في الحجاز".
هذه هي إذن صورة اليمن في عيون الريحاني، حاول أن ينقلها إلينا كما شاهدها ولأنه لم يستسغ تقديم الصورة مبتورة فقد كان يحفّها بالتاريخ وأحداثه، وبالفلسفة وتأمُّلاتها وبالشِّعْر وانثيالاته، فيجد القارئ جانبًا كبيرًا من تاريخ اليمن الحديث أيام الوجود العُثماني والإنجليزي، واسترجاعات تاريخية وافية عن حُكم الأئمَّة في اليمن، مازجًا السياسة بالتاريخ بالجُغرافيا بالعلوم والفلسفة، وهو ما يحملنا على القول بأن ما كتبه الريحاني عن زيارته لليمن في عام 1922م ضمن كتابه (ملوك العرب)، يأتي مُتفرِّدًا في بابه ورغم مُؤاخذاتٍ عليه، سيظل جديرًا بالقراءة والتأمُّل.