المؤرخ في ذهابه وإيابه بين الماضي والحاضر
آخر تحديث GMT19:52:02
 العرب اليوم -

المؤرخ في ذهابه وإيابه بين الماضي والحاضر

 العرب اليوم -

 العرب اليوم - المؤرخ في ذهابه وإيابه بين الماضي والحاضر

بيروت ـ وكالات

ما زالت منهجية التأريخ بعيون الحاضر تثير سجالات نظرية لا حصر لها. وفي المقابل، لم تعد منهجية التأريخ الرأسي الممتد بشكل مستقيم من الماضي إلى الحاضر تتمتع بصدقية كافية. فبرزت نظريات أخرى حول المسيرة اللولبية أو الحلزونية لكتابة أحداث الماضي. وتبلورت أنواع عدة من التاريخانية التي تشكل نظرية موثوقة لدى المؤرخين الجدد لقراءة الماضي والمستقبل بعيون الحاضر الناظر إليهما ذهاباً وإياباً. في هذا السياق يثير كتاب فرنسوا هارتوغ « تدابير التاريخانية، الحاضرية وتجارب الزمن»، الذي نقله الى العربية بدر الدين عرودكي وصدر عن منشورات المنظمة العربية للترجمة، قضايا منهجية تستحق التوقف عندها. فالتاريخانية لديه هي نوع من العلاقة التي يقيمها الناس بين الماضي والمستقبل، وتتحدد معها منهجية المؤرخ الذي يعتمدها. فهناك مجموعة كبيرة من التعارضات الثنائية بين الماضي والمستقبل منظوراً إليهما بعيون المؤرخ المعاصر. وغالباً ما يتم التركيز على التعارض بين الأسطورة والتاريخ بوصفه علماً، وبين الحدث التاريخي والبنية المجتمعية. وظيفة «تدابير التاريخانية» الواردة في العنوان متواضعة لأنها مجرد أداة للعمل لا تطمح إلى كتابة تاريخ العالم، لا في الماضي ولا في المستقبل. وهي ليست خطاباً منهجياً حول كتابة التاريخ بل مجرد فرضية صيغت في الزمن الحاضر لتبرز رؤية المؤرخ المعاصر لعلاقات الناس بالزمان. في الغالب، يتناول المؤرخ أزمنة عدة، ويمارس الذهاب والإياب بين الحاضر والماضي. فتصبح تدابير التاريخانية في هذا السياق مجرد إجراء عملي في فضاء من التساؤل المنتج لفهم تلك الحركة، وتساعد على فهم أفضل لعملية التأريخ. فبموجب العلاقات بين الحاضر والماضي والمستقبل تبدو بعض أنماط التأريخ ممكنة وأخرى غير ممكنة. من الاسطورة الى الحدث على جانب آخر، تتطلب تدابير التاريخانية معالجة موضوعات تأريخية كثيرة منها، نظم الزمان، والتحول من الأسطورة إلى الحدث، والأنتروبولوجيا وأشكال الزمنية، والتمييز بين تدابير التاريخانية في الماضي والحاضر، والتاريخ الرسمي الحي، والأطلال التاريخية، وزمان الرحلة، وشروخ الحاضر، والذاكرة والتاريخ، والتواريخ القومية، والعرق والتاريخ، والتاريخ الساكن والتاريخ التراكمي، وغنى الثقافة بالأحداث، ومفهوم المجتمع التاريخي، وأنماط التاريخانية، وأماكن الذاكرة والاحتفاء بها، والتاريخ البطولي، وأنتروبولوجيا التاريخ، والمقالة التاريخية، والدراسات التاريخية، والتراث والحاضر، والأزمنة الحديثة، وزمان البيئة، ودروس التاريخ، وحاضرية الحاضر، والتاريخ الجديد، والزمان المعاكس والتاريخ المعاكس وغيرها. فالمقالة التاريخية هي حكاية رحلة نحو عالم جديد، لكنها أولاً رحلة داخلية. أي أنها تحقيق تاريخي حول مجرى الثورات القديمة والحديثة. ما يستوجب التمييز بين زمان الرحلة والزمان في الرحلة. فالزمان التاريخي هو نتاج المسافة بين مجال التجربة من جهة، وأفق الانتظار من جهة أخرى. أي أنه نتاج التوتر بين الإثنين، ويستوجب الكثير من الإيضاح. والدراسات التاريخية تعبر عن جولة جديدة بين تجارب الزمان وتواريخ التطور في لحظة الأزمات. ثم اتسع المنظور بعد ان أصبح الحاضر متجلياً بصورة أكثر مباشرة، لكنه يغتني دوماً بطريقة الرؤيا، والفعل، والتقدم. فقد انطلقت رؤية هوميروس للتاريخ بصفته الفاصل الزمني المحسوب بالأجيال. وهو يحمل على الانتقال من المظلمة إلى الانتقام لها أو إزالتها. ومن خلال تحقيقه في حقبات الانتقام الإلهي يستطيع المؤرخ الواسع الإطلاع أن يقدم رؤية لطرفي السلسلة ومستوياتها الوسطية. كان تاريخ الماضي بمثــابة تاريخ الانتقام، في حين أصبح تاريخ الحاضر لاحقاً بمثابة تاريخ البحث عن العدالة. وأبرز أدوات المؤرخ القديم هي الأسطورة أو الحكاية، والذاكرة، والنسيان. وكان الزمان التاريخي يبدو آنذاك كما لو كان متوقفاً. أما المؤرخ المعاصر فيبحث عن الحدث التاريخي وهو يدرك أن تاريخ الحاضر عبارة عن نفق يعبره الإنسان في الظلام دون أن يعرف إلى أين تقوده أفعاله. فبات مرتاباً في مصيره، مفتقراً دوماً إلى الأمان الموهوم الذي يمنحه له العلم. هكذا أضحى التاريخ اليوم بمثابة قلق يجب على الإنسان المعاصر أن يتحاشاه، وهو يواجه مستقبلاً مغلقاً بات فكره عاجزاً عن معرفة آفاقه. كانت الذاكرة في النمط القديم تعتبر ناقلة للتراث بصورة دائمة. فهل يتم استدعاء الذاكرة اليوم لأنها في طريقها إلى الاختفاء؟ من الآن فصاعداً باتت الذاكرة تاريخاً لأن كل شيء يتحول بسرعة إلى أثر سريع العطب. ما تسبب بإفلاس عملية التأريخ للثقافة التاريخية في الزمن الراهن. أما الزمان التاريخي القابل للبقاء فهو القادر على أن يعقد نوعاً من القران السريع بين الماضي والحاضر، ليشكلا معاً معلماً في كتابة تاريخ الحاضر على أسس جديدة. علماً أن شروخ الحاضر كبيرة. ولا يكف علماء الاقتصاد الإعلامي للحاضر عن إنتاج واستهلاك الحديث بعد أن تابع التلفزيون مسيرة الراديو. فالحاضر فاعل في اللحظة التي يصنع فيها، وينظر إلى نفسه بوصفه تاريخاً أو بالأحرى بوصفه ماضياً أصيلاً. والهوية، وفق توصيف فرنان بروديل، لا تبحث لنفسها عن أي جوهر ثابت يجب العثور عليه في الماضي أو تحقيقه في المستقبل. إنها بالضبط ســمة مســـتمرة على المدى الزمني الطويل. هي هذا المد والجزر، هذه الأمواج العميقة لماضي الشعوب والتي تصب في الزمان الحاضر كما تصب الأنهار في البحار. حركية الذاكرة أزمة الثقافة التاريخية هي نتاج الثغرات التي يصعب ردمها أو تجاوزها بين الماضي والحاضر، أو الماضي والمستقبل. لذا تبدو كغريب تائه في الزمان التاريخي الذي يفصل بين ماض محدد بأشياء دالة عليه لكنها لم تعد موجودة، وبأشياء متخيلة لكنها لم توجد بعد. وقد أشارت حنة أرندت إلى أن «البنية الحميمية للثقافة الغربية، مع معتقداتها، قد انهارت على رؤوسنا» وفق المفهوم الحديث عن تاريخ الحاضر. فدخل العالم الحاضر في الزمان القهري، زمان العولمة، زمان الاقتصاد العالمي الداعي على الدوام إلى مزيد من الحركية ومستعيناً أكثر فأكثر بالزمان الحقيقي. وقد تبلورت عبر زمان عالم التراث الذي وضعته منظمة الأونيسكو بموجب اتفاقية عام 1972 تحت شعار «من أجل حماية التراث العالمي، الثقافي والطبيعي». وهنا تبرز أهمية الذاكرة الزمانية. فجرائم القرن العشرين، مع مذابحها الجماعية وصناعة الموت الرهيبة، هي العواصف التي انطلقت منها موجات التذكر التي ما زالت تحرك مجتمعاتنا المعاصرة بقوة. فالماضي لم يمض إلى النسيان لأن الذاكرة التاريخية تعيد إحياءه من جيل لآخر. أخيراً، يوسع مفهوم «تدابير التاريخانية» من قدرة المؤرخ المعاصر على الاستفادة من إقامة حوار، ولو بالواسطة، بين الأنتروبولوجيا والتاريخ. ما يسمح بتسليط الضوء على أشكال من تجربة الزمان. وقد رسم بول ريكور مسار التاريخانية منذ هيغل حتى هايدغر ليؤكد شرط الوجود التاريخي، واعتبار الإنسان الحاضر بوصفه تاريخاً لنفسه. فلا يأتي النور من الماضي بل من المستقبل. ومع أن حدود التمييز بين التاريخ والتأريخ لم تكن واضحة تماماً في النص المنقول إلى العربية، يشكل الكتاب نقلة نوعية في فهم التاريخ وطرائق كتابته بصورة منهجية ومتطورة باستمرار.  

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المؤرخ في ذهابه وإيابه بين الماضي والحاضر المؤرخ في ذهابه وإيابه بين الماضي والحاضر



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:11 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأميرة آن تُغير لون شعرها للمرة الأولى منذ 50 عاماً
 العرب اليوم - الأميرة آن تُغير لون شعرها للمرة الأولى منذ 50 عاماً

GMT 11:50 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

ولي العهد السعودي يُدين الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل في غزة
 العرب اليوم - ولي العهد السعودي يُدين الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل في غزة

GMT 14:56 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

أداة ذكية لفحص ضغط الدم والسكري دون تلامس

GMT 01:33 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

اعتقالات جديدة في أحداث أمستردام وتجدد أعمال الشغب

GMT 13:05 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

مهرجان آفاق مسرحية.. شمعة عاشرة

GMT 06:21 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

مفكرة القرية: الطبيب الأول

GMT 10:50 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

سبيس إكس تعيد إطلاق صاروخ Falcon 9 حاملا القمر الصناعى KoreaSat-6A

GMT 20:05 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

انضمام بافارد لمنتخب فرنسا بدلا من فوفانا

GMT 16:04 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ريال مدريد يكشف طبيعة إصابة فاسكيز ورودريجو في بيان رسمي

GMT 07:23 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

أزياء ومجوهرات توت عنخ آمون الأيقونية تلهم صناع الموضة

GMT 08:47 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يتألق في حفل حاشد بالقرية العالمية في دبي

GMT 14:12 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ليفربول يفقد أرنولد أسبوعين ويلحق بموقعة ريال مدريد

GMT 22:55 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ليوناردو دي كابريو يحتفل بعامه الـ50 بحضور النجوم
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab