يشهد إقليم كردستان العراق في 25 سبتمبر/أيلول 2017، استفتاء لانفصال الأكراد عن العراق وتأسيس دولة يحلمون بإقامتها منذ عقود. ولتحقيق هذا الحلم القومي يسير قادة الإقليم العراقي في حقل ألغام يختزله موقف بغداد الرافض بشدة الانفصال، والمعزز برفض مماثل للدولتين الجارتين: تركيا وإيران، إلى جانب حذر الدول الكبرى في مقاربة الملف قبل الانتهاء من هزيمة تنظيم داعش.
وعلى الرغم من وجود سلطة أمر واقع كردي في شمال العراق منذ عام 1991 وانتزاعها وضعية الإقليم شبه المستقل ضمن الدولة العراقية في دستور عام 2005، فإن فكرة الاستفتاء لم ترد على لسان الأكراد إلا في فبراير/شباط 2016 بعد انتزاع الأكراد منطقة سنجار الإستراتيجية، في سياق مشاركتهم بالحرب على تنظيم "داعش".
وطرح رئيس الإقليم مسعود البارزاني وقتها فكرة "استفتاء غير ملزم" لجس نبض المجتمع الدولي والحكومة المركزية الواقعة منذ نحو عامين تحت وطأة انتزاع ثلث أراضي العراق من تحت سيطرتها، وفي أبريل/نيسان الماضي التقى قادة الحزبين الرئيسيين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني لتحديد موعد الاستفتاء.
وفي يونيو/حزيران الماضي حدد البارزاني 25 سبتمبر/أيلول موعدا "للاستفتاء على مصير كركوك واستقلال كردستان"، مؤكدا أنه حصل على دعم دولي في تقرير المصير. كما غابت الإشارة إلى أن الاستفتاء غير ملزم. ومع اقتراب موعد الاستفتاء ارتفع منسوب التوتر بين بغداد وأربيل بشأن الموضوع، خصوصا بعد تصويت البرلمان العراقي على رفضه، وصدور حكم من المحكمة العراقية العليا بتعليقه، واتخذت إيران وتركيا من جهتهما مواقف حادة وواضحة في رفضهما الانفصال، كما هددت أنقرة بفرض عقوبات وحشدت قوة عسكرية صغيرة على حدودها مع شمال العراق. وعلى الرغم من أن التسريبات تشير إلى تردد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إزاء الفكرة، وخشية البارزاني من رفض البرلمان لها فإن البارزاني نفسه لا ينفي وجود وساطة دولية.
وأعلن صراحة في 20 سبتمبر/أيلول خلال مهرجان في السليمانية أن جميع المقترحات التي قدمها المجتمع الدولي لم ترق إلى مستوى الاستفتاء العام الذي يوصلنا بطريقة ديمقراطية إلى الاستقلال. ومع إعطاء العبادي إيعازا لفتح معركة الحويجة التابعة إداريا لكركوك لطرد تنظيم داعش، منها يبدو أن طرفي الأزمة في أربيل وبغداد تعمدا التزام سياسة حافة الهاوية في أزمة الاستفتاء الكردي.
ومساعي الوسطاء تتواصل لثني رئيس الإقليم مسعود البارزاني عن المضي قدما في هذه الخطوة خشية التبعات المحلية والإقليمية التي ستترتب على نجاح فكرة انفصال أكراد العراق عن الدولة الاتحادية. ونقلت إذاعة مونت كارلو مضمون تسريبات من العاصمة الفرنسية تفيد بوجود تحرك دبلوماسي فرنسي تجاه البارزاني ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، أثمر عن مبادرة مكونة من ثلاثة بنود تتلخص بالتالي: إجراء تعديل على الدستور العراقي تتحول فيه البلاد إلى اتحاد كونفدرالي، أي اتحاد بين دولتين.
ويعرض هذا التعديل على البرلمان العراقي للتصويت قبل أن يطرح في استفتاء عام بالعراق. يصدر مجلس الأمن الدولي بيانا وليس قرارا بتأييد الخطوة الفرنسية. وأشارت المصادر ذاتها إلى أن التحرك الفرنسي تزامن مع تصريحات لرئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي بشأن انفراج محتمل للأزمة مع البارزاني، ونقلت الإذاعة عن مصادر في بغداد قولها إن العبادي منفتح على الفكرة الفرنسية، في حين يتردد البارزاني خشية رفض التعديل الدستوري، وتحول العراق إلى النظام الكونفدرالي في البرلمان أو في الاستفتاء العام.
ولم يتضح بعد مصير المساعي الفرنسية في حين حسم البارزاني موقفه من مبادرة دولية عرفت باسم "البديل الدولي للاستفتاء" سلمت له في دهوك في 14 سبتمبر/أيلول من قبل المبعوث الأممي إلى العراق يان كوبنتس، فقد أعلن خلال مهرجان جماهيري في السليمانية في 20 الشهر الجاري أن "جميع المقترحات التي قدمها المجتمع الدولي لم ترق لمستوى الاستفتاء العام".
وتتضمن وثيقة "البديل الدولي" عرضا يقضي بالعدول عن الاستفتاء مقابل المساعدة على التوصل إلى اتفاق بين بغداد وأربيل في مدة أقصاها ثلاث سنوات. وبحسب الوثيقة، فإن المقترح يقضي بشروع حكومتي بغداد وأربيل على الفور في "مفاوضات منظمة حثيثة ومكثفة" -من دون شروط مسبقة، وبجدول أعمال مفتوح لحل كل المشاكل- تتناول المبادئ والترتيبات التي ستحدد العلاقات المستقبلية والتعاون بين الطرفين.
وكشف مصدر عراقي كذلك أن المبادرة الأممية تتضمن العديد من البنود التمهيدية التي من شأنها أن تؤدي بالنتيجة إلى الانفصال، مبينا أن "تطبيق المادة 140 (الخاصة بالمناطق المتنازع عليها) مع ضمان حصة الإقليم وقوات البشمركة في الموازنة الاتحادية كلها أمور ستجبر بغداد على القبول بالاستفتاء إذا لم تنفذها". وفي حين قوبلت الوثيقة بالرفض من قبل البارزاني فقد عبر كل من حركة التغيير -وهي حزب المعارضة الكردية الرئيسي- والجماعة الإسلامية عن ترحيبهما بها في بيان مشترك صدر في 20 سبتمبر/أيلول.
وفي الـ21 من الشهر ذاته صدر عن وزارة الخارجية الأميركية ما يمكن أن يعتبر تهديدا شديد اللهجة للبارزاني، وقد خير البيان القادة الأكراد بين الاستفتاء وبين انتهاء العرض الذي قدم لهم من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والأمم المتحدة، عند لقاء جمع ممثلي هذه الدول مع مسعود البارزاني في دهوك. وفشل اجتماع الوفد الكردي مع نظيره في بغداد مساء السبت في الخروج بأي نتائج إيجابية حول مناقشة عملية الاستفتاء في إقليم كردستان العراق.
وبعد ثلاث ساعات من النقاشات، أكد رئيس الوفد الكردي المفاوض روز نوري شاويس خلال مؤتمر صحافي أن الاستفتاء قائم في إقليم كردستان في موعده المقرر، لافتا إلى أن المناطق المتنازع عليها ستحددها مشاركة الأهالي هناك. ونفى القيادي عن الاتحاد الوطني الكردستاني سعدي أحمد بيره من جانبه ما تناولته وسائل إعلام حول تخلي حزب الاتحاد الوطني عن الاستفتاء، ودعا جماهير الحزب "للتصويت لصالح المشروع".
وقال هوشيار زيباري أحد كبار مستشاري رئيس كردستان العراق مسعود بارزاني إن وفدا من حكومة الإقليم توجه إلى بغداد السبت لإجراء حوار مع الحكومة العراقية. وقال زيباري، وزير الخارجية العراقي السابق، لوكالة رويترز إن الوفد سيناقش عملية الاستفتاء الذي ينظمه الإقليم في الـ25 من أيلول/ يونيو، لكنه أكد أن التصويت سيمضي قدما وأن المحادثات مع بغداد ستجري قبل الاقتراع وخلاله وبعده.
وبيّن المسؤولون الأكراد أن التصويت يهدف إلى إعطاء إقليم كردستان العراق الذي يتمتع بحكم ذاتي منذ عام 1991، تفويضا شرعيا لتحقيق الاستقلال عن العراق من خلال الحوار مع بغداد ومع تركيا وإيران المجاورتين.
وأعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات والاستفتاء في كردستان بدء عملية تصويت الأكراد المقيمين في الخارج. وقال عضو المفوضية جوتيار عقراوي، إن التصويت سيكون عبر الانترنت يومي 23 و24 أيلول/ سبتمبر. كما لوح وزراء خارجية العراق وتركيا وإيران باتخاذ إجراءات منسقة مشتركة إذا تمسك الأكراد العراقيون بالاستفتاء المقرر على الانفصال، والذي يلقى رفضا دوليا متزايدا، في وقت تطالب أربيل ببدائل ملموسة لتعدل عنه. وأكد وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري، والتركي مولود جاويش أوغلو، والإيراني محمد جواد ظريف في بيان عقب اجتماعهم في نيويورك اليوم الخميس في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، عدم دستورية استفتاء كردستان المزمع إجراؤه الاثنين المقبل، محذرين من نشوب صراعات في المنطقة يصعب احتواؤها.
وجاء في بيان للخارجية العراقية أن الجعفري وجاويش أوغلو وظريف أكدوا التزامهم بالحفاظ على وحدة العراق السياسية وسلامة أراضيه، وأعلنوا رفضهم القاطع لإجراء الاستفتاء، ودعوا لضرورة أن تعدل قيادة إقليم كردستان العراق عن الاستفتاء. ووفقا للبيان نفسه، اتفق الوزراء الثلاثة على اتخاذ إجراءات مضادة بالتنسيق فيما بينهم، دون تحديد طبيعتها، محذرين من أن الاستفتاء يعرض الانتصارات التي حققها العراق على حساب تنظيم "داعش" لمخاطر جمة. في غضون ذلك قال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إن الاستفتاء مرفوض لأنه يخالف الدستور العراقي وفيه تجزئة وإضعاف للبلاد. وأوضح العبادي خلال لقاء مع مجموعة من السياسيين والصحفيين أن تغيير الحدود من طرف واحد بالقوة يعني "فتح باب الدماء على مصراعيه".
ويأتي الموقف العراقي التركي الإيراني المشترك بعد يوم من تلويح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن بلاده قد تفرض عقوبات على إقليم كردستان إذا مضى قدما في الاستفتاء. وقال أردوغان إن مجلس الأمن القومي التركي سيبحث الجمعة الرد على هذه الخطوة التي قالت تركيا إنها تهدد أمنها القومي وحشدت قوات قرب معبر الخابور على الحدود مع شمال العراق.
وكانت إيران لوحت بدورها بأنها ستغلق كل الممرات والمعابر مع كردستان العراق إذا جرى الاستفتاء، محذرة بدورها من أنه قد يتسبب في صراعات جديدة بالمنطقة. وكان رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني أعلن أنه يمهل الحكومة العراقية ثلاثة أيام لتقديم بديل للاستفتاء وإلا سيجري في موعده، في حين نقلت مصادر عن رئيس الوزراء العراقي رفضه مبادرة نقلها الرئيس العراقي فؤاد معصوم عقب زيارته السليمانية لأنها كانت تنص على حق الأكراد في اللجوء إلى الاستفتاء إذا فشلت المفاوضات.
من جهتها، أكدت الولايات المتحدة رفضها الشديد للاستفتاء، وقالت الخارجية الأميركية إن واشنطن تحث الزعماء الأكراد العراقيين على الدخول في مفاوضات مع الحكومة العراقية بدلا من ذلك. وتتبنى دول غربية أخرى موقفا مشابها، وتقول إنه يتعين على الأقل تأجيل الاستفتاء.
أرسل تعليقك