حلب الشهباء تاريخ ما أهمله التاريخ

حلب الشهباء تاريخ ما أهمله التاريخ

حلب الشهباء تاريخ ما أهمله التاريخ

 العرب اليوم -

حلب الشهباء تاريخ ما أهمله التاريخ

بقلم : مصطفى الفقي

يزهو تاريخ الحضارة العربية بالمدائن التاريخية التي لعبت دوراً مهماً في البناء الحضارى للأمة، بدءاً من «دمشق الفيحاء» (وعز الشرق أوله دمشق) كما قال أمير الشعراء، وتلتها عاصمة الرشيد «بغداد العباسيين»، ثم «قاهرة الأزهر الشريف»، انطلاقاً إلى المغرب العربى حتى «القيروان»، مروراً بمدينتى «مراكش» و«فاس»، وتلت تلك الحواضر العربية مباشرة مدن أخرى لها ثقل في تراثنا الفكرى والثقافى والاجتماعى، نتذكر منها «حلب الشهباء» برونقها وألقها على الحدود الشمالية للوطن العربى الكبير همزة للوصل بين الثقافات وقنطرة تواصل بين الحضارات، ثم «الموصل» في «العراق» مدينة الطرب والغناء والأدب والشعر، وصولاً إلى «الإسكندرية» التي تمثل الإطلالة العربية الكبرى في جنوب المتوسط بتاريخها العريق وارتباط نشأتها بالغزو اليونانى لدول الشرق على يد «الإسكندر الأكبر».

وسوف أكرس السطور التالية من هذا المقال للحديث عما آلت إليه الأوضاع في «حلب الشهباء»، حيث بلغت المأساة الإنسانية ذروتها بفعل الأحداث الدامية والظروف الصعبة والمسائل المتشابكة والتركيبة المعقدة.

إن هذه المدينة العظيمة التي ارتبطت بالأحداث الكبرى في تاريخ العروبة والإسلام، وهى مدينة تجارية وثقافية جرى ذكرها في الكتب القديمة والحديثة على السواء، باعتبارها ذات مكون فريد امتزجت فيه دماء السكان بأصول عربية وتركية وكردية، وها هي الآن تعانى من الأوجاع ما لم تعرفه من قبل، وهى المدينة التي استقبلت «عبدالناصر» ذات يوم في شتاء 1958، رافعة رايات العروبة مؤدية التحية لعلم الوحدة.

إننى أريد أن أطرح بهذه المناسبة الملاحظات الثلاث التالية:

أولاً: إن الهجمة الشرسة على المنطقة لا تستهدف فقط ترويع البشر وهدم الحجر وتشويه صورة الإسلام و«دق إسفين» بينه وبين أشقائنا من أهل الكتاب، ولكن المسألة تتجاوز ذلك إلى ما هو أشد خطراً وأكثر سوءاً، فالهدف الرئيس هو طمس المعالم الحضارية للمنطقة وإهدار المقومات الأساسية لدعائم وجودها، لذلك حرص تنظيم «داعش» ومن قبله «تنظيم القاعدة» وغيرهما من الجماعات الإرهابية على هدم التماثيل ونهب المتاحف وتحطيم الآثار بضراوة وشراسة تنبع من كراهيتهم للحضارات مثلما فعلوا في «تدمر» وفى متاحف «العراق» من قبل وفى غيرها من البؤر الثقافية الكبرى المؤثرة في المسار الحضارى للمنطقة.

وسوف يظل مشهد إعدام الأثرى السورى العجوز، الذي أنشأ المتحف وقام على إدارته لأكثر من أربعين عاماً، مشهداً حزيناً ومخزياً لن يغيب عن ذاكرة الإنسان في كل زمان ومكان، إنه يقترب كثيراً من مشهد ذبح «الراهب» في الكنيسة بـالعاصمة الفرنسية «باريس»، هي جرائم من نوع خاص فاقت في ضراوتها كل أنماط العدوان وأساليب البغى، وها هم يدمرون «الفيحاء» التي كنا نعتز بها ونتيه بتاريخها ونتحدث عن أناقة شعبها وجمال نسائها ورقى مزارها، فإذا هي اليوم أطلال وركام وأشلاء ودماء وأحزان ودموع!

ثانياً: إن الوقفة السلبية للعالمين العربى والإسلامى إزاء ما جرى ويجرى هي دليل على أننا نكاد نخرج من التاريخ بعد أن خرجت أجزاء منا من الجغرافيا، إنها هي بلا جدال أيام حزينة وفترات سوداء تلطخ رايات العروبة وتلفت الأنظار إلى أن العدوان هو عدوان على الحضارة والبناء الإنسانى والوجود البشرى الذي صنعه تراكم الأحقاب وتعاقب الحضارات مع طبقات التراث الذي أسهم فيه كل أبناء الشرق الأوسط من أصحاب الديانات والأعراق والقوميات.

ثالثاً: لقد حاولت منظمة «اليونسكو» المعنية بحفظ التراث الإنسانى أن تبذل جهداً، ولكنه جهد نظرى يقف عند حدود الشجب والإدانة، ولا يزيد عن النداءات الدبلوماسية والمواقف الإعلامية، رغم أن سقوط «حلب» والمعارك الدامية التي دارت في ضواحيها وشوارعها هي مؤشر حزين لما عانينا منه وما سوف ندفع ثمنه من فاتورة تدفعها أجيالنا القادمة ولن تجدى وقتها الدموع نذرفها فوق الأطلال ولا البكاء على اللبن المسكوب.

إننا نعيش مرحلة مفصلية لا في تاريخنا السياسى وحده ولكن أيضاً في مسيرتنا الحضارية وإرثنا الثقافى الذي شيده الآباء والأجداد عبر العصور، لقد سقطت «الموصل» ذات يوم في قبضة تنظيم «داعش» وتمزقت «حلب» في أتون الصراع الذي لا يتوقف، وأصبح علينا أن نواجه الحقيقة وأن ندعو الإنسانية كلها للحفاظ على التراث الحضارى للمدن التاريخية والبقع ذات الثقل في تاريخ الإنسان، والتى عرفناها عبر العصور منارات للمعرفة ومراكز للإشعاع.

ولتقف منظمة «اليونسكو» العالمية في مقرها بـ«باريس»، ومنظمة الثقافة والعلوم العربية بمقرها في «تونس»، وقفة قوية وواضحة تجاه تلك الأحداث المخزية والمواقف المؤلمة في تاريخنا المعاصر.. تحية للشعب السورى البطل، وتعظيماً لشعب «حلب» مثلما هو الأمر الموجه لغيره من المدن السورية الباسلة وشقيقاتها من الأقاليم العراقية الصامدة في ظل إحساس مشترك يعلو فوق الاختلافات الدينية أو التباينات العرقية أو الخلافات المرحلية.

arabstoday

GMT 03:57 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

حامد ربيع.. أستاذ علم الحضارات

GMT 04:59 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

اعترافات ومراجعات (80).. اليهود وكورت فالدهايم

GMT 03:37 2024 الأربعاء ,03 تموز / يوليو

مجمع اللغة العربية.. الأزمة والحل

GMT 02:51 2024 الأربعاء ,03 تموز / يوليو

اعترافات ومراجعات (62) الاكتئاب سلعة إسرائيلية

GMT 03:29 2024 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

اعترافات ومراجعات (59) من أحمد حسنين إلى أسامة الباز

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حلب الشهباء تاريخ ما أهمله التاريخ حلب الشهباء تاريخ ما أهمله التاريخ



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 15:39 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا يوسف تخوض تحديا جديدا في مشوارها الفني

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 17:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab