تاريخ ما أهمله التاريخ قصتى مع «جعفر نميرى»

تاريخ ما أهمله التاريخ قصتى مع «جعفر نميرى»

تاريخ ما أهمله التاريخ قصتى مع «جعفر نميرى»

 العرب اليوم -

تاريخ ما أهمله التاريخ قصتى مع «جعفر نميرى»

بقلم : مصطفى الفقي

جذبنى كثيرًا فى سنوات الصبا عدد من الكتب التى صدرت فى النصف الأول من القرن العشرين وأيضًا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وقد شدنى كتاب «حبيب جاماتى» «تاريخ ما أهمله التاريخ»، وجعلنى أحصل على التثقيف والتسلية والاستغراق فى متعة القراءة لأولئك الحكائين الكبار، وفى تلك السنوات الباكرة من العمر انخرطت فى قراءات واسعة بين الأدب والفن، بين السياسة والاقتصاد، بين التاريخ والجغرافيا، وسعيت إلى اكتشاف القنطرة التى تربط الفكر بالعلم من خلال سير العظماء والعباقرة والمخترعين، وها أنا ذا أعود إلى «حبيب جاماتى» لأقتبس منه العنوان الذى أسطر تحته عددًا من الأحداث والمواقف التى قد لا تكون معروفة لدى كثير من القراء، خصوصًا الشباب من الأجيال الجديدة، وأكتب اليوم عن الظروف التى جمعتنى عبر جلسات طويلة مع الرئيس السودانى الراحل «جعفر نميرى»، بعد إقصائه عن السلطة ليكون منفيًا فى أحد القصور الرئاسية الصغيرة بـ«مصر الجديدة»، وقد كان الرئيس الأسبق «مبارك» يوفدنى إليه بشكل دورى منتظم للاطمئنان عليه ومعرفة أخبار «السودان» من خلاله، إذ اكتشفنا أن أعدادًا كبيرة من المواطنين السودانيين كانوا يتوافدون إلى مقر إقامته، فى وقت كانت فيه الحكومة السودانية تطالب «مصر» بتسليمها «نميرى»، بل أوفدت وقتها النائب العام السودانى إلى «القاهرة» من أجل ذلك الغرض، ورفض الرئيس الأسبق «مبارك» تسليم «نميرى» إلى «الخرطوم»،

لأنه رأى أن ذلك ضد تقاليد «مصر» فى احترام قواعد اللجوء السياسى، ووقتها قال لهم «مبارك»: إننى لست «سجانًا» لأسلمكم «نميرى»، ولن أسلمكم «نميرى» مهما كانت النتائج، وقد أدهشنى كثيرًا أنه فى ظل تلك الأجواء التى يطالب فيها «السودان» بـ«جعفر نميرى»، إذا بى أكتشف أن السفير السودانى فى «القاهرة» ومستشاره الصحفى يزوران الرئيس السودانى المطلوب، ويتناولان الغداء على مائدته كل يوم تقريبًا، وتلك صفة سودانية رائعة، فهم يفصلون تمامًا بين الخلافات السياسية وبين العلاقات الشخصية، حتى إن «نميرى» نفسه وهو فى الحكم كان يلتقى بخصومه فى احتفالات التخرج فى مدرستهم الثانوية، وكان من بينهم «إبراهيم نقد»، زعيم الحزب الشيوعى السودانى، وقبل نهاية كل لقاء بنصف الساعة يطلب منه حرس الرئيس «نميرى» الانصراف والاختفاء مرة ثانية، لأنه مطلوب من نظام الحكم القائم! 

وفى ظنى أن تلك تركيبة تستعصى على الفهم أحيانًا، ولكنها التقاليد السودانية الموروثة، التى تعبر عن درجة عالية من التحضر السياسى واحترام حق الاختلاف وخيارات الآخر، ولقد بكى «جعفر نميرى» بين يدى أكثر من مرة، خصوصًا عندما كنت أسأله عن دوره فى تهجير «يهود الفلاشا» من «إثيوبيا» إلى «إسرائيل» عبر الأراضى السودانية، كما حكى لى أن أباه وأمه لقيا مصرعهما فى حادث سيارة وهما فى الطريق لحضور حفل تخرجه فى الكلية الحربية بـ«الخرطوم»، وكان يعلق على السياسيين السودانيين بدءًا من «الصادق المهدى» و«حسن الترابى» وصولًا إلى المشير «سوار الذهب» الذى تولى السلطة بعده، ولابد أن أعترف بأن «نميرى» كان من السودانيين الذين يحبون «مصر» ويدركون العلاقة الوثيقة بينها وبين «السودان»، ورغم أخطائه الداخلية مثل إعدام «الشفيع أحمد»، الزعيم العمالى الشيوعى، ثم إعدام «على طه» وهو فى سن متقدمة، بسبب خلافات فقهية وآراء دينية، رغم ذلك كله، فإنه كان ينظر إلى «مصر» نظرة تنطلق من مفهوم الإخاء والتكامل وليس مفهوم العداء أو التنافس، وكان «نميرى» يتوهم دائمًا أن انقلابًا عسكريًا سوف يحدث ليعيده للسلطة فى «الخرطوم»، وقد بَشَّر باندلاع «ثورة الإنقاذ» عام 1989 قبل وقوعها بأيام قليلة، ولكنه اكتشف أن مَن قاموا بها ليسوا بالضرورة من مؤيديه أو المتحمسين له، بل إنهم كانوا خليط

ًا من عناصر تنتمى تاريخيًا لـ«الإخوان المسلمين» مع بعض «البعثيين»، بالإضافة إلى آخرين أثبتوا فيما بعد أنهم لا يحملون ودًا لـ«مصر»، فاستولوا على «جامعة القاهرة» فرع «الخرطوم» و«استراحات الرى» المختلفة المملوكة لـ«مصر» دون التفكير فى حد أدنى من التعويض جراء تلك المواقف التى أحدثت هوة فى العلاقات بين البلدين منذ قيام «ثورة الإنقاذ» حتى الآن، ولقد اعترت «جعفر نميرى» نزعة دينية فى أواخر أيامه، ربما كانت تكفيرًا عن بعض خطاياه، إذ إننا لا ننسى حين تقمصته أفكار تطبيق «الشريعة» وقطع كثيرًا من الأيدى والأرجل من خلاف فى مجتمع فقير، قد لا تبدو سرقة الطعام فيه جريمة كبرى، حتى إن سارق الخبز الجائع لا يُعد سارقًا فى الإطار الإنسانى، ولنتذكر أن الخليفة الراشد «عمر بن الخطاب» قد عطل تطبيق الحدود فى «عام الرمادة»، والذى يهمنى هنا هو أن الحكام الجبابرة يصبحون طيبين عندما يزول عنهم غطاء السلطة، وتحل الوداعة محل الجبروت، وكأن وحش الغابة أصبح مستأنسًا لا حول له ولا قوة، ولقد ظل «نميرى» فى «القاهرة» لعدة سنوات إلى أن قام بأداء فريضة «الحج» وعاد إلى وطنه «السودان» دون مشكلات تُذكر إلى أن لحق بالرفيق الأعلى منسحبًا من الحياة فى هدوء وكأنه لم يحكم «السودان» أكثر من خمسة عشر عامًا، وقد حظى بجنازة ملائمة ولسان حال الجميع يردد: «لمَن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار».

arabstoday

GMT 03:57 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

حامد ربيع.. أستاذ علم الحضارات

GMT 04:59 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

اعترافات ومراجعات (80).. اليهود وكورت فالدهايم

GMT 03:37 2024 الأربعاء ,03 تموز / يوليو

مجمع اللغة العربية.. الأزمة والحل

GMT 02:51 2024 الأربعاء ,03 تموز / يوليو

اعترافات ومراجعات (62) الاكتئاب سلعة إسرائيلية

GMT 03:29 2024 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

اعترافات ومراجعات (59) من أحمد حسنين إلى أسامة الباز

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تاريخ ما أهمله التاريخ قصتى مع «جعفر نميرى» تاريخ ما أهمله التاريخ قصتى مع «جعفر نميرى»



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 15:39 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا يوسف تخوض تحديا جديدا في مشوارها الفني

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 17:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حماس تعلن مقتل رهينة بقصف إسرائيلي شمالي غزة

GMT 08:28 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يحول الرسائل الصوتية إلى نصوص بلغات منها العربية

GMT 08:16 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"حزب الله" يعلن استهداف قوات إسرائيلية في الخيام والمطلة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab