لا ديمقراطية بلا علمانية

لا ديمقراطية بلا علمانية

لا ديمقراطية بلا علمانية

 العرب اليوم -

لا ديمقراطية بلا علمانية

عريب الرنتاوي

مناسبة هذا المقال، ما تسرب عن مؤتمر الرياض للمعارضات السورية من تصريحات تشدد على توافقها على «مدنية» الدولة السورية، الأمر الذي أثار ويثير الكثير من الأسئلة والتساؤلات، لا على المصطلح فحسب، ولكن حول النوايا الكامنة تحت سطحه، والتي تشف عن «تواطؤ متبادل» بين الأطراف المجتمعة وليس توافقها أو إجماعها ... إذ كيف يمكن أن تلتقي نظرة «احرار الشام» مع نظرة ميشيل كيلو وجورج صبرا لمفهوم «مدنية» الدولة السورية على سبيل المثال، كيف يمكن لدولة الشرع والشريعة التي تطالب بها الحركة، أن تكون مدنية وديمقراطية، وأن يحظى فيها المعارضان المسيحييان – اليساريان، بدور في مستقبل سوريا، أو ربما بحقهما في الحياة؟

والحقيقة أن الجدل حول «مدنية» الدولة و»ديمقراطيتها» ليس محصوراً في سوريا ولا بمعارضيها، بل هو جدل عربي بامتياز، انتشر وتعمّق خلال السنوات الخمس الفائتة على نحو خاص، في سياق ما بات يعرف بـ «الربيع العربي»، حيث اتجهت مختلف تيارات الفكر والسياسة على تباعدها، إلى تبني هذا «الشعار»، وجعله في مرتبة «القاسم المشترك الأعظم»، مع أن لكل فريق تفسيره له، والذي يذهب به في اتجاهات مغايرة.

هل يمكن لدولة أن تكون مدنية، وبالأخص، ديمقراطية، وأن تسبغ على نفسها،وفي المواد الأولى من دستورها، طابعاً دينياً، بل وأن تعلن بأن دين الدولة أو دين رئيسها، هو الإسلام أو المسيحية على سبيل المثال؟. ... هل يمكن لحركة سياسية دينية أن تكون مخلصة لشعار مدنية الدولة وديمقراطية، وهي تضع في صدارة أولوياتها، هدف تطبيق الشريعة، وجعلها مصدراً وحيداً أو «المصدر الرئيس» للتشريع؟ ... هل يمكن لدولة (كإسرائيل على سبيل المثال) أن تكون «يهودية» أو «دولة جميع أبنائها اليهود»، وأن تزعم بعد ذلك، أنها دولة مدنية وديمقراطية؟.

في خمسينييات وستينيات (وصولاً إلى سبعينييات القرن الفائت)، لم تكن تيارات الفكر والسياسة في العالم العربي، تخشى المجاهرة بدعوتها إلى «علمنة» الدولة ... حتى أن كياناً رسمياً كمنظمة التحرير الفلسطينية، تحدثت عن الدولة الديمقراطية العلمانية، التي سيجري تشييدها على الأرض الفلسطينية بعد تحريرها ... أحزاب حاكمة جاهرت بعلمانيتها، وجادلت في «بؤس خيار الدولة الدينية».

اليوم، تفقد هذه التيارات جرأتها على البوح بما تعتقد به، وتلوذ إلى التمويه والتورية، للتعبير عن جوهر مواقفها، وقد وجدت في «الدولة المدنية – الديمقراطية» ضالتها المنشودة ... وفي ظني أن لغياب الجرأة في طرح الشعار وتبنيه والدفاع عنه، أسباب عديدة أهمها اثنان:

الأول؛ أن بعض هذه التيارات، يشعر بالخجل الشديد والحرج الأشد، في الدفاع عن «علمانيتها» بعد أن أظهرت الأحزاب العلمانية العربية التي حكمت العديد من الأقطار والأمصار، ميلاً جارفاً نحو الديكتاتورية والتسلط، وقادت دولها ومجتمعاتها، إلى الفشل والتشظي والاحتراب، بل ولم تتردد في التخلي عن «علمانيتها» و»إشهار إسلامها»، عندما اكتشفت أن متطلبات الحفاظ على السلطة، تستوجب ذلك.

والثاني؛ أن صعود الحركات الإسلامية في السنوات الثلاثين، قد أخضع التيارات العلمانية، لأبشع عمليات الابتزاز، حيث اتهمت بعدائها للدين خدمة لأجندات خارجية، وجرى التبشير لنظرية بائسة، ترد فشل التجربة العلمانية العربية، إلى علمانيتها، وليس لفشل النخب الحاكمة في تشييد دولة المواطنة الفاعلة والمتساوية الحديثة.

اليوم، لا تجد الحركات الإسلامية حاجة للبرهنة على أنها قادرة على قيادة تجربة تحول ديمقراطي عميقة وغير قابلة للانتكاس عن أول منعطف، وبعد أن تستنفذ الانتخابات وظيفتها الوحيدة من وجهة نظر هؤلاء، والمتمثلة في إيصالهم للسلطة ومن بعدها «التمكين»... وقد ثبت بالتجربة، العالمية كذلك، أن هذه الحركات غير قادرة على تقديم نموذج ديمقراطي حقيقي، وأن ما يمنعها من التحول إلى قوة «ثيوقراطية متحكمة»، هو فقط وجود «معادل موضوعي» لها سواء داخل مؤسسات الدولة (المغرب) أو داخل المجتمع (تونس)، وحين يغيب هذا المعادل، تبدأ مسار الانتكاس عن الديمقراطية (تركيا).

لا تجهد الحركات الإسلامية في محاولة لإقناع «الآخر» في الوطن، دينياً ومذهبياً وفكرياً وسياسياً، بأن خطابها، ينطوي على الضمانات الكفيلة بتمكين هذه الأطراف من الاستمرار في التمتع بحقوقها وحرياتها، من دون إقصاء او تهميش، أو استعلاء وإحساس بالتفوق، ونراها بدلاً عن ذلك، تصب جام غضبها واتهاماتها للعلمانيين بوصفة ملاحدة وزنادقة وخارجين على الملّة، وتحرص على تشويه مفهوم العلمانية، وربطها بالإلحاد، وهو أمر ينطلي للأسف على الشرائح الأمية وقليلة المعرفة، من المجتمع، ما يجعل من أطروحاتهم، بضاعة رائجة.

في حين أن تجربة الإنسانية برمتها، أظهرت وبما لا يدع مجالاً للشك، أن لا ديمقراطية من دون علمانية، وإن أي محاولة لتديين الدولة أو تطييفها ومذهبتها، هو الطريق الأقصر للثيوقراطية، وأن ضخ جرعات إضافة من التديين للدولة ومؤسساتها، كفيل بإطلاق ديناميكيات مضادة للتقدم على دروب الديمقراطية، وكفيلة بالانقضاض على أية مكتسبات سبق وأن تم إنجازها، وتفريغها من مضمونها.

كما برهنت التجربة الإنسانية كذلك، أن العلمانية لا تعني تلقائياً الانتقال إلى الديمقراطية أو ترسيخها، فكثير من الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، كانت أنظمة استبدادية معادية للحرية والديمقراطية، بدلالة التجارب العلمانية الفاشية والشيوعية والقومية التي حكمت في دول وقارات شتى.

ليست أوروبا وحدها، من قدمت النموذج لارتباط الديمقراطية بالعلمانية، آسياً أيضاً قدمت نماذج دالّة على ذلك، في حين قدمت العديد من تجارب العالمين العربي والإسلامي، البرهان على تعذر التقدم على مسارات التحول الديمقراطي مع الإصرار على «تديين» الدولة، وعلينا أن نكون أكثر صراحة وأقل اتهامية، في حواراتنا حول هذا الموضوع.

arabstoday

GMT 06:25 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

الروس قادمون حقاً

GMT 06:24 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... أخطار الساحة وضرورة الدولة

GMT 06:22 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

زحامٌ على المائدة السورية

GMT 06:21 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

روبيو... ملامح براغماتية للسياسة الأميركية

GMT 06:18 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

سوريا قبل أن يفوت الأوان

GMT 06:17 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

محفوظ والعقاد في عيون فيفي وشكوكو

GMT 06:16 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

البعد الإقليمي لتنفيذ القرار 1701

GMT 06:14 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

معركة مصالح دولية وإقليمية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا ديمقراطية بلا علمانية لا ديمقراطية بلا علمانية



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 01:25 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

الأوركسترا التنموية و«مترو الرياض»

GMT 06:28 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

السجائر الالكترونية قد تحمل مخاطر صحية غير معروفة

GMT 00:18 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

قصة غروب إمبراطوريات كرة القدم

GMT 00:08 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

تحذير من عقار لعلاج الربو يؤثر على الدماغ

GMT 00:08 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ماذا يحدث فى حلب؟

GMT 01:36 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

عودة ظاهرة الأوفر برايس إلى سوق السيارات المصري

GMT 12:03 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدء أعمال القمة الخليجية الـ 45 في الكويت

GMT 02:12 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

السفارة الروسية في دمشق تصدر بيانًا هامًا

GMT 00:03 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

مي عمر أفضل ممثلة في "ملتقى الإبداع العربي"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab