بقلم : أسامة غريب
زمان وقت أن كنت طالبًا بالثانوى كنت أرقب نادية فى غدوها ورواحها. لم تكن كغيرها من البنات أو هكذا كنت أتخيل. كان النظر إلى عينيها يرسل إلى قلبى شحنة كهربية، فتسرى فيه القشعريرة، أما هى فلم تكن تصمد أمام نظراتى الحالمة، وكانت تشيح بعينيها وتغض طرفها فى حياء، بعد أن يحمر وجهها. عشقتُ رشاقة خطواتها وهى تخطر فى مريلة المدرسة وترتدى فوقها معطفًا قصيرًا.
حلمت بها بكل عنفوان ورومانسية المرحلة، وتخيلتها معى فوق القمر، كما تخيلته مزروعًا بالفل والياسمين. صحبتها معى فى الحلم إلى بلاد لم تسبق لى زيارتها، فذهبنا إلى منابع الأنهار وقمم الجبال.. ركبت معها التلفريك وتجولنا فى الغابات ومشينا مع الرعاة وسهرنا مع المزارعين فى الحقول، وغنينا معًا كل أغانى فيروز.
وفى يوم صحيت على صوت فرح، بصيت من الشباك. سألت: ما الأخبار؟. قالوا: خطوبة نادية.. عقبال عندكم. مادت الأرض بى، وتصورت أن نهارًا جديدًا لن يطلع علىَّ. لم أدْرِ ماذا أفعل كرد فعل على هذا الموقف الجديد، ولم أستطع أن أستدعى من خبراتى تصرفًا مناسبًا حيث خلت هذه الخبرات من موقف مماثل. فكرت لو أن البيت كان مزودًا ببار مثل البيوت فى الأفلام لكنت فتحت زجاجة ويسكى وعملت لنفسى كأسًا بالثلج أو بالصودا، وشربت حتى أنسى. هكذا يفعلون فى الأفلام، لكن ما حيلتى ووالدى لم يؤسس ركنًا للشراب داخل المنزل. لو أن أبى كان استيفان روستى أو عباس فارس لاهتم بهذا الموضوع، أما أبى الرجل الطيب فلم يكن يشغله سوى العمل من أجل سد حاجة أفراد الأسرة، ولم يَبْدُ أن لديه حلولًا لمشكلة كالتى أواجهها. إذن فلأفعل ما فعله عبدالحليم حافظ عندما تركته لبنى عبدالعزيز وتزوجت عمر الحريرى فى الوسادة الخالية. لقد ذهب حليم إلى البار وشرب حتى عجزت قدماه عن حمله، ولم ينسَ أن يغنى «تخونوه». أنا أيضًا أستطيع أن أغنى تخونوه، لكن المشكلة أننى لا أشرب.. ليست مشكلة ولا حاجة.. عبدالحليم أيضًا كان لا يشرب.. لكن أين هو هذا البار؟. لقد سكر عبدالحليم فى زمن كان البلد يمتلئ فيه بالبارات، وكانت أسعار الشراب رخيصة، أما الآن فقد انحسرت البارات، فأين أجد خمارة بنت حلال أقوم فيها بتنفيذ الكتالوج الخاص بالمصدومين فى الحب؟. شىء آخر نسيته هو أن حليم لم يكن وحده.. كان معه صديقان يشاركانه مشاعره ويتألمان لألمه، هما أحمد رمزى وعبدالمنعم إبراهيم، أما أنا فأقاسى وحدى، وليس معى أحد يساعدنى ويحملنى إلى المستشفى بعد أن أسقط من الإعياء، والأهم ليس معى فلوس من أجل دخول البار، فضلًا عن أن القانون لا يسمح بتقديم الخمور لفتى فى السادسة عشرة من عمره.. فما العمل إذن؟.
مازلت أذكر، بعد كل هذه السنوات، أننى قضيت الليلة عند «نجف»، بتاع الفول، فى العباسية، حيث أكلت «اثنين فول مع قرصين طعمية بالسمسم»، كان فيها العزاء الذى مسح جانبًا من آلامى.