حسن البطل
يُحكى أن ملكاً على مملكة قوية خاض حرباً ضروساً (قل: عواناً) على خصم عنيد وإن أقل قوة منه. انتصر جيش الملك القوي ومملكته القوية على خصمه العنيد، لكن بعد ان هلك معظم جيشه.. فقال قولته: نصر آخر كهذا.. وانتهيت.
لنقل، بغير مجاز، أن الفلسطينيين هم الخصم العنيد. لنقل، بالمجاز، أن انتصارات إسرائيل على العرب وحروب إسرائيل مع الفلسطينيين وعليهم بعيدة عن أن تشكل خطراً وجودياً على الدولة. مع ذلك، اعتاد سياسيو العالم على نوع من توازن الموقف إزاء حروب إسرائيل مع الفلسطينيين، وهو: إسرائيل تستخدم "قوة مفرطة" أو "غير متناسبة" مع العنف الفلسطيني.
النسبة والتناسب في الخسائر العامة مختلة بشكل فادح جداً في حروب إسرائيل مع جيوش الدول العربية، وكذا في حروبها مع الفلسطينيين. سيقال أن عديد العرب أضعاف مضاعفة لعدد الإسرائيليين، لكن عديد الإسرائيليين أكبر من عدد الفلسطينيين.. ولا مقارنة في إمكانات ووسائل القوة العسكرية الإسرائيلية، مقابل القوى الفلسطينية.
فاقت خسائر الفلسطينيين الإجمالية في هذه الحرب الـ 1700 ضحية، وتقول تقارير دولية أن أكثر من 80% منها وقعت بين المدنيين، وحوالي ثلث الضحايا هم من الأطفال.
في مقارنة مضافة، فإن أكثر من 2000 صاروخ أطلقت على إسرائيل من غزة، لكنها أوقعت ثلاثة قتلى فقط، واحد منهم مواطن بدوي في النقب. منازل الإسرائيليين القليلة التي أصيبت كان دمارها ضئيلاً مقارنة بمنازل الفلسطينيين التي سوّيت معظمها بالأرض، وأنقاضها فوق ساكنيها.
يفترض أن نسبة الـ 20% من خسائر الفلسطينيين البشرية لحقت بالمقاتلين أو رجال الإسعاف والدفاع المدني، وأن نسبة قليلة نسبياً من المقاتلين وقعت في الأسر.
لكن، حتى صباح الأمس، سقط من جنود الجيش الإسرائيلي 63 جندياً وضابطاً، وإلى ذلك لدى الجانب الفلسطيني جثة جندي، وضابط أسير يرجح أنه على قيد الحياة.
وجدت إسرائيل جواباً ناجعاً على صواريخ المقاومة، ولو بنسبة 80%، لكن تلقت إسرائيل صدمة فاعلية الأنفاق في شن 4ـ5 هجومات ناجحة وقاتلة خلف خطوط الجيش.
هذا يذكّرنا بمفاجأة تلقاها الجيش الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973 وهي صواريخ "ساغر" المضادة للدروع، وصواريخ "سام" أرض/ جو، علماً أن مضادات الدروع كانت المفاجأة، أما صواريخ "سام" فلم تكن مفاجأة بعد نجاعتها في حرب الاستنزاف التي سبقت حرب العبور.
مع كل هذه النسبة والتناسب المختلة بشكل فادح لصالح جيش العدو، فإن فضائيات فصائل المقاومة لا تكف عن تعداد أسماء الصواريخ التي في ترسانتها، وبشكل أقل القاذفات المضادة للدروع، بما يوحي للعالم أن لديها قوة صاروخية كبيرة، لا تقاس بما كانت تملكه المقاومة الفلسطينية في لبنان من قاذفات الكاتيوشا (أرغن ستالين) وقاذفات "الغراد"، لكن المقاومة الفلسطينية في لبنان كان لديها سلاح مدفعية ثقيل.
كانت "مفاجأة" سلاح المدفعية الفلسطيني في حرب لبنان هي التي دفعت إسرائيل إلى طلب وقف إطلاق النار للمرة الأولى في العام 1981، لأنه حصل، بقيادة قائد السلاح واصف عريقات (أبو رعد) على أجهزة تدقيق رمايات إلكترونية من الاتحاد السوفياتي، بعد أن سيطر الفلسطينيون على ميناء صيدا، علماً أن السوريين كانوا قد رفضوا تزويد القوات الفلسطينية بأجهزة تدقيق الرمايات.
في جولة الحرب الجارية على غزة، سنلاحظ أن إسرائيل مارست سياسة الدمار الشامل والأرض المحروقة، واقترفت مجازر كبيرة منها ثلاث في الشجاعية وخزاعة ورفح بعد أن تلقى الجيش الإسرائيلي ضربات قاتلة، سواء عبر الأنفاق، أو بأسلحة مضادة للدروع.
تعنينا، الآن، مجزرة رفح، لأنها تلت هجوماً فدائياً قاتلاً موضع جدل: هل حصل قبل "هدنة إنسانية" مدتها 72 ساعة أو بعدها بقليل، واسفرت عن قتلى في جنود العدو، وبالذات عن أسر جندي برتبة ملازم أول.
بذلك، تكررت "عقدة شاليت" رغم أن جيش العدو اتخذ إجراءات واحتياطات لئلا تتكرر عملية أسر جلعاد شاليت، بما في ذلك أن "ينتحر" الجندي قبل أسره، أو يقتله جندي آخر لليحلولة دون أسرة حيّاً.
قبل أسر الضابط، كان يمكن أن تجري عملية تبادل "جثث مقابل جثث" بعد انتهاء الحرب، لكن بعد أسر الضابط ستجري عملية تبادل أسرى، علماً أن نتنياهو يعتبر صفقة شاليت غلطة اقترفها ولن تتكرر!
المهم، واللافت، أن الرئيس الأميركي وأمين عام الأمم المتحدة وجدا متسعاً للمطالبة بإطلاق سراح الضابط الأسير فوراً، وقبل أي هدنة أخرى أو انتهاء الحرب، دون الالتفات إلى ضحايا الفلسطينيين الذين قضوا في مجزرة رفح بعملية انتقام إسرائيلية مجنونة تماماً، وبخاصة أنها جرت عن طريق أسر الضابط بهجوم عبر الأنفاق، علماً أن إسرائيل تقول إنها دمرت معظمها، ولن توقف الحرب قبل تدمير البقية، وهذا أمر متعذر لوجستياً.
في غياب النسبة والتناسب بين ضحايا الجانبين، وغياب أكبر في نسبة التناسب لجهة الدمار في المساكن والمدارس والمستشفيات، فإن قوة إسرائيل الفائقة على القتل والتدمير لا تنجح إلى الآن، في ثني قوة العناد الفلسطيني.