حسن البطل
الفصول أربعة في بلاد بعل. الصيف للحصاد والحصاد للقمح، والحصاد غير الجني. الربيع لمتعة العين وليقظة الازهرار بعد سبات شتوي. السبات موات مؤقت او نوم، أو مونة من الماء لباقي الفصول الثلاثة. أما الخريف فهو القطاف. للحصاد أساطير الميثولوجيا، وللقطاف الاغاني والثمرات.
كان القطاف سابقا لحضارة الزراعة والحراث، هو ونبش الدرنات من التربة. بدأت الزراعة في بلاد بعل، أول ما بدأت، بتدجين القمح هنا في بلاد بعل، او تدجين الأرز في بلاد الدلتات الآسيوية والأنهار.
هذا كلام ثرثرة، او البسملة. قبل آية القطاف في الخريف. أعناب وثمرات من الفواكه مختلفة الألوان والذائقة والمنافع: الشجرة هي الحياة، والانسان ابنها.
ليس كل خريف أقطف، وليس في العمر كله أن حملت منجلاً للحصاد، لكن ليس في اي ربيع لم أبذر بذور الازهار او أشتل شتلات الورود. هذه سنتي الماسية في القطاف. قطفت من الشجيرة الى الفم في بريطانيا ثمرات توت العليق (بلاك بيري) عالية الأكسدة ومانعة للسرطان كما يقال. نبات محب للماء والرطوبة، افتقدته في أرضه منذ طفولتي المبكرة على ضفاف نبع النهر أقصى الغوطة.
من قطاف توت العليق (بلاك بيري) الى قطاف التفاح والعنب من بستان الصديق ناصر في قرية سردا. سبحان ربي الأعلى وشتاء مطيراً (وماء بئر جمع في سردا وعناية فائقة بأشجار البستان) كانت التفاحات تنوء بأغصانها وأفنانها التي تنوء بحمل حتى عشر ثمرات من التفاح متلاصقة كأنها توائم سيامية متلاصقة.
تفاحة وتفاحتان للفغم والنتش، وما يملأ كيساً لجارور براد البيت. من الشجرة لليد ومن اليد للفم، او من جارور البراد الى العصارة الكهربائية اربع حبات تفاح على الريق صباحاً.
التفاح في البسطات يلمع، والتفاح على الاشجار يستحي بغلالة من الوبر كأنه شهرزاد، وانت لا تقطف جشعاً، بل تقوم بقطاف "التغريد" اي تقطف تفاحة من عنقود تفاحات، لتترك للبقية فرصة ان تسمن.
البستان تفاح وداليات عنب وتين ايضاً، وهذا الأخير يمنحك لذة القطاف كاملة. من الشجرة الى اليد الى الفم، كما تمنحك التوتة هذه اللذة، فتتلو آية الحمد والشكر: أنت بدائي؟ نعم بدائي.
الخريف للقطاف، ومرّت خريفات دون قطاف، عندما تمرض شجيرات بستان ناصر او كان الشتاء ماحلاً لا يملأ ما يكفي من الماء في بئر الجمع، فيذهب الماء للشرب اولاً واشغال المنزل ثانياً.
لكنه كان خريفاً خاصاً ومميزاً، لأن صباحي الثاني منحني فرصة نادرة لقطاف آخر من الثمرات، ليس من الاشجار لكن من نبات يطرح خضاراً حمراء تصنف علمياً ثماراً، وتعامل كأنها خضراوات .. بل ملكة الخضراوات، وهي هذه البندورة .. ولكن اي بندورة هذه؟
صديق جلب بذورها معه من لبنان، ومن سهل البقاع، اي بندورة جبلية، لم أر شبيها لها في فلسطين، فهي مجعلكة كأنها وجه عجوز مقرنة، أي ملأى بالتجاعيد. شكلها غير وطعمها غير مالحة قليلاً بما يغنيك عن الملح، كاوية قليلاً بما يغنيك عن الفلفل، رقيقة القشرة بما يغريك بالنتش والفغم، تطيب جداً فوق العادة مع رغيف من القمح الكامل، وقطعة من الجبنة وحبات من الزيتون.
ذهبت، اصلاً، لبستان ناصر في سردا لأنه دعاني لأرى "شجرة حسن" وكم شبت وبلغت من الطول خلال سنوات قليلة. إنها بنت اشجار حديقة بيتي، لكن لم يفتني ان أرصد حمل اشجار الزيتون وحباتها الكبيرة. ربما هذه السنة ماسية زيتونية او شبه ماسية، ليست كموسم العام ١٩٩٢ الخرافي الذي يتحدثون عنه هنا. كان ذلك العام ماطراً في فصل الخريف والقطاف، وزيتون المتوسط يجود إن كان الخريف ماطراً، كحال الزيتون في دول شمال البحر المتوسط.
للزراعة أركانها: حراثة وحصاد وقطاف، ولها ايضا روافد أركانها: السقاية والتشهيل والسماد، ولها الحصاد الآلي والقطاف الآلي، اولها في بلاد بعل الحصاد اليدوي والقطاف اليدوي.
.. وأنا أحب في الخريف اعتدال التشارين، وايضاً اؤدي صلاة القطاف. لا أشهى من قطاف حبة تين، او حبات من التوت، او ثمرة بندورة بعلية، او ثمرة تفاحة، او عنقود عنب.
ربما كنت من الجيل الأخير الذي ذاق البندورة البلدية حقاً، والجبلية حقاً!