أطراف النهار

أطراف النهار

أطراف النهار

 العرب اليوم -

أطراف النهار

بقلم : حسن البطل

اشتكى إليّ الشاعر السوري، ممدوح عدوان، مطلع خدمته العسكرية، أن النور يُطفأ ليلاً في مهاجع الجنود في ساعة مبكرة، فلا يجد وقتاً متاحاً لما اعتاد عليه من قراءة ليلية، منحه قائد المعسكر ساعة إضافية. ماذا كان جوابي على شكواه؟ قلت: لماذا لا تعتبرها مرحلة "اختزان" لقصائدك اللاحقة.

هل لو كان جوابي "كمون" عوض "اختزان" ستقل مفاجأتي عندما زجّ الشاعر بمفردة "اختزان" في جملة من قصيدته الجديدة.

في العربية، الحيّة والميتة، زهاء مليون و300 ألف مفردة، ضعف مفردات الإنكليزية، وتجدون مفردة "البحر" وافرة، لكن في شبكة الكلمات المتقاطعة غير ما في الشعر والأدب والجغرافية، حيث للبحر مفردات مثل "عيلم" و"قماقم".

الإغريق أمة بحرية، وفي لغتهم أن البحر هو "ثالاسّا"، وفي الإنكليزية هو Sea، وفي الفرنسية هو "مير" للبحر وللأم.

أحد النقاد أخذ على رواية لأديب استخدامه مفردات وعبارات جدّ قديمة، مثل: "أشعث أغبر" و"صرتَ حكيماً، أو تحتذي بحذاء الحكماء"، وعنون نقده بـ "الروائي واستغباء القارئ".

قارئ عقّب على رأي الناقد بالقول: ما هي مسؤولية الروائي من مسؤولية المحرر الأدبي والمدقّق اللغوي؟

كتّابنا يكثرون من استخدام عبارة: "سؤال يطرح نفسه". هل على المحرر أن يستبدلها بعبارة مثل: "سؤال ماثل" أو "مطروح"، أو عبارة "العام القادم" بـ "العام المقبل"، وكذا "المسألة نفسها" بـ "المسألة ذاتها".

ليس للسؤال "نفس"، ولا للسنة "أقدام"، ولا للمسألة "روح". لذا قال الشاعر القديم عن حصانه "مكرّ مفِرّ، مُقبل مُدبر" لأن للحصان أربع أقدام.

اللغة مفردات في مواضعها، وَلِنُحَاتها قواعدهم في ضبطها، وأما البلاغة، فهاكم عبارة قالها شاعر: "لي بحر لا تتسع الأرض له" فذكّرني ذلك بثلاث صياغات من عندياتي:
بحر أمامي وورائي بحر. تُقال لقارّة فسيحة بين محيطين أمامي بحر وورائي بحر. تُقال لبلد بين بحرين مجاورين أمامي بحر وبحر ورائي. تُقال لواحد وجد نفسه ضائعاً في جزيرة جدّ صغيرة.

صحيح أن الأسلوب هو الكاتب، لكنّ هناك كاتبا يملك مروحة مفردات واسعة، وآخر قد يملك مروحة مفردات ضيقة يصوغها في أفكار مترابطة، وموازنة الجزالة والفخامة في استخدام المفردة اللغوية وعباراتها هي ما يميزّ نصاً عن نص، إن في الشعر أو المقالة.. أو الرواية.

ليس كل مدقّق لغوي ضليع كمحرّر أدبي، لكن لعلّ أنجح الروائيين من جمع بينهما. لعلّ هذا قد يفسّر لماذا خير الروائيين من عمل محرراً في الصحافة، وفيها يتم صقل المفردة والعبارة، كما نجد حصى الحجارة ملساء ومُسْتَرَقَة على ضفاف شاطئ البحر يغسلها الموج، أو قاع نهر دائم الجريان.

لماذا يحفظ القارئ شعر محمود درويش مثلاً؟ صحيح أنه اعتاد على فرادة قواميس اللغة، لكنه صاحب مفردات وعبارات سلسة وصقيلة في شعره ونثره، ومارس مهنة المحرّر الأدبي مُطوَّلاً.

لماذا يكتب زميلنا أكرم مسلم روايات ناجحة. مسلّم درس العربية أكاديمياً، وجمع بين المدقّق اللغوي وبين المحرّر الأدبي. بدأ الممارسة المزدوجة مدقّقاً في "الأيام" ثم صار محرّراً لجملة كتب ومجلات ونشرات.

هكذا، أتقن صقل عبارات روايته، عدا وضع مفرداتها في مكانها.

لبعض الروائيين نجد غزارة في كتابة الروايات، لكن مع فقر في مروحة المفردات، أو استخدام مفردات قديمة عفا عليها الزمن، أو ركاكة في صقل العبارة من خشنة إلى سلسة.
فقر في المفردة، وضعف في سلاسة صقل العبارة نجده في الشعر أكثر من الروايات. خذ مثلاً شعر محمود درويش وشعر معين بسيسو أو سميح القاسم.

صحيح أن الثلاثة يُعَدُّون من كبار الشعراء المعاصرين.. لكن، ربما بعد عقود أخرى من السنوات سيبقى في الذاكرة شعر محمود درويش.

شعر السياب سيبقى، لكن شعر عبد الوهاب البياتي سيطويه النسيان، بعدما كان يعدّ شاعراً كبيراً في مرحلة ما.

كما في الشعر والرواية والمقالة، كما في الترجمة من لغة إلى أخرى، حيث أفضل الترجمات إلى اللغة العربية لا يخلو من أغلاط وأخطاء لضعف تملك المترجم للغتين، وقدرته على الاشتقاق اللغوي.

أظنّ أن زميلنا السابق، المحرّر الأدبي في "فلسطين الثورة"، محمد علي اليوسفي من خير المترجمين للروايات والشعر من الفرنسية إلى العربية، فقد درس العربية في جامعة دمشق، وفي هاتين اللغتين يفوقني كثيراً، لكنه لم يمارس التحرير الصحافي كما مارسته مُطوَّلاً.

هاكم هذه الطرفة: كان اليوسفي حائراً في ترجمة كلمة Resemblance الفرنسية إلى العربية. بعد تفكير اقترحتُ عليه أن يترجمها بـ "التبادي" اشتقاقاً من: بدا، يبدو فوافقني رأيي.

مقالات زميلي حسن خضر فكرية محكمة، وإن كانت مروحة مفرداتها قليلة نسبياً، وفازت بجائزة فلسطين 1997 للمقالة. في العام التالي مُنحت جائزة المقالة الصحافية، مع ملاحظة درويش: "رغم أن آراء الكاتب تخالف الاتجاه العام". لاحقاً قال لي: تستحقها للغتك وأسلوبك وليس لرأيك. قلت له: تعلمت منك، وكنت قلت له، منتصف سبعينيات القرن المنصرم في بيروت: ربما نثرك أجمل من شعرك. قال لي في رام الله: أفتح "الأيام" على "أطراف النهار" كما كنت أفتح "السفير" على رسمة ناجي العلي!

كان شعر البياتي يروق لدرويش، ثم لم يعد كذلك، وأنا لا يروق لي شعر البياتي، ولا أشعار بعض كبار الشعراء الفلسطينيين، أو روايات بعض كبار الأدباء التاريخيين الفلسطينيين، بل روايات أدباء شبّان مثل أكرم مسلّم، القادم من مراس وخبرة المدقّق اللغوي والمحرّر الأدبي معاً.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أطراف النهار أطراف النهار



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 07:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 11:10 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرات إسرائيلية تستهدف مستشفى كمال عدوان 7 مرات في غزة

GMT 17:28 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab