هو نفسه، الشاعر القومي الذي قال: «يا أيها الشعراء لا تتكاثروا»، والذي قال: «من يكتب حكايته يرث أرض الكلام..». لا مفارقة في القولين، سوى أن الشعر لسان الذات للحدث، كما لسان الجرح الراعف للشعب والبلد، وأمّا الرواية فهي، غالباً، لسان الحكاية للشعب والأرض.. والتجربة.
في عامنا الجاري، صدرت ثلاث روايات لثلاثة رواة، وفي العام 2017 صدرت رواية هي علامة فارقة في الروايات الفلسطينية.
من روايات عامنا هذا، صدرت لصافي صافي تاسع رواياته منذ العام 1990، معنونة «تايه»، كما أصدر نبيل عمرو، الإعلامي والصحافي البارز، والسياسي روايته الأولى، غير كتب منشورة له، ومعنونة «وزير إعلام الحرب». رواية رابعة لأكرم مسلّم «بنت من شاتيلا» نالت نصيباً أوفر من التغطية عرضاً ونقداً. في العام 2017 صدر لحسين ياسين رواية: «علي. قصة رجل مستقيم»، وعلى فرادة موضوعها وجدّته كانت الأقل تناولاً للعرض والنقد. فهي رواية عن زمن الانتداب في فلسطين، والحرب الأهلية الإسبانية.
طبعاً، صدرت روايات غير هذه الأربع، لكن رواية «تايه»، خصصتها لأنها، أولاً، من روايات النكبة الأيارية، وثانياً وبالذات لأنها تقص حكاية نكبة قرية بيت نبالا المهجّرة في الإطار التاريخي والروائي النكبوي، وهي نتيجة بحث جاد في الوقائع والمكان، وحكاية حياة وصدمة بطلها «تايه» وهو شخص «على البركة» أي بسيط العقل معتلّ الجسد.
رواية نبيل عمرو من روايات النكسة الحزيرانية، وبالذات في صدمة قرية «كفر عرب» جنوب الخليل، وأبطالها: العسكري النظامي والمختار.. ومذياع الحرب، التي بدأت وكأنها ثأر الجيوش من النكبة، وانتهت إلى احتلال جديد ومستكمل ونكسة أخرى لا تقل أثراً ووقعاً عن حرب النكبة. فيها أشياء من روح سخرية صاحب المتشائل، إميل حبيبي، من النكبة، وخبرة الراوي في معايشة وقائع النكسة، ممزوجة بخبرته كإعلامي وصحافي متمرّس.
ما الذي يميّز رواية حسين ياسين: «علي. قصة رجل مستقيم»، وهي قصة ملتزم شيوعي شاب، كان في الأصل فلّاحاً في قرية «جيبيا»، ثم عمل في فرن مقدسي، فإلى مقاتل في الحرب الأهلية الإسبانية، خلال ثلاثينيات القرن المنصرم، هو وأربعة من رفقائه، عاد منهم إلى البلاد حياً واحد فقط، بينما مات البقية، ودفنوا في أرض إسبانيا. نفاه الانتداب إلى موسكو، وحزبه أرسله للقتال الأممي ضد الفاشية الإسبانية.
هذه رواية ثمرة بحث مستفيض، شخصي وسياسي واجتماعي عن أوضاع فلسطين تحت الانتداب، والعلاقة مع الشيوعيين اليهود. نادراً جداً ما قرأنا روايات كهذه، أبطالها كانوا فلّاحين ثم عمّالاً.. وأخيراً مناضلين فلسطينيين أمميّين شيوعيّين في حرب أهلية خارج البلاد دارت بين الأمميّين في العالم والتقدميّين، وبين الفاشية الفرانكوية. لاحقاً، سنعيش زمناً صار فيه النضال الفلسطيني مظلة وبؤرة أممية.
المؤثر في الرواية أن الراوي زار إسبانيا، وفتّش عن قبر «علي» فوجده دارساً، ورمّمه، ولم يطرح سؤال نقل رفاته إلى أرض البلاد، أو مسقط رأسه في قرية «جيبيا» من أعمال رام الله.
بم تمتاز رواية «تايه» لصافي صافي؟ وهو ينتمي إلى ثلاث ـ أربع حمولات في قرية «بيت نبالا» قضاء اللد، وولد في قرية «بيت اللو» قضاء رام الله؟
ليس صحيحاً ما هو الشائع، ونسبة اسم القرية إلى «صناعة النبال»، بل يعود اسمها إلى اشتقاقات لغوية متتالية بابلية ـ كنعانية، تبدأ بالإله «نبو» البابلي و»اللات» الكنعانية، ومن «نبو اللات» إلى «نفلات» إلى «نبلات» وأضيف إليها «كلمة بيت» السامية القديمة، وصارت «بيت نبالا» لكن سكانها يقولون: أنا من دار زيد، صافي، نخلة، الشراقا.
ولا يوفر صافي صافي الحديث عن لهجة خاصة لسكان القرية، مثل «مات خصّك» أي مات الذين يَخُصُّونك. أما مشية «تايه» الساذج عقلاً و»على البركة» والمعاق جسداً فهو يمشي «هدولة» أي مرتخي الأطراف والجسد أي «مهدول»، وله عبارته الأثيرة التي يرددها في وقائع النكبة وهي «عرب ويهود تقاتلوا».
***
جرى تحوير عبارة درويش «من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً» الى عنوان مقالة لحسن خضر عن يوم الأرض: «من يكتب الحكاية يرث أرضها» إلى عبارة ترفع في يوم الأرض: «من يملك حكاية الأرض يرث أرض الحكاية».
كثر الرواة الفلسطينيون وتعددت الروايات الفلسطينية. عندما زرت، مؤخراً، متحف صاحب القول: «يا أيها الشعراء لا تتكاثروا». وفي «بريد الأنبياء» لاحظت أن غلافات دواوينه الشعرية، في لغات عدة لها ركن.. لكن لا يوجد غلاف ديوان له باللغة العبرية، ووعد المشرف على المتحف برفع صورة غلاف ديوان ثان بالفرنسية لوضع صورة غلاف ديوان بالعبرية.
هناك روايات عدّة عن المخيم، وعن اللجوء، وعن زمن العمل الفدائي.. وبالطبع، روايات تاريخية عن حضارات تعاقبت على أرض فلسطين، وغزاة جاؤوا وراحوا، ويبدو أن أحمد رفيق عوض قد اختصّ بهذا المجال، كما اختصّ اللبناني إلياس خوري بجملة من الروايات الممتازة عن القضية الفلسطينية، رغم أنه لم يطأ أرض فلسطين، بل عاصر وشارك في النضال الفلسطيني.
***
هذا الأسبوع، أنهى الناقد د. عادل الأسطة وظيفته في جامعة النجاح، والإشراف على رسائل طلبته للماجستير، والدكتوراه في الأدب، لكنه سيبقى ناقداً للشعر والأدب العربي، والنقّاد الفلسطينيون قلّة في هذا المجال.. وتحية له شخصاً وناقداً.
.. ويا أيها النقّاد تكاثروا.. أيضاً.