حسن البطل
لا يرى توماس فريدمان، المعلق الرئيسي لصحيفة "نيويورك تايمز" والخبير في شؤون الشرق الأوسط، سوى ضوءين في نفق "الربيع العربي" هما: كردستان وتونس.
ربما زيارة أولى ومفاجئة، لوزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى القاهرة، بعد أسبوعين من انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً تشير إلى أن واشنطن، التي بدأت خطاياها في هذا "الربيع العربي" برفع الغطاء عن حليفها مبارك، تعتزم، مدفوعة بفشلها في العراق وسورية وليبيا (وأيضاً، وبشكل أكبر) في فشل مهمة كيري في حل المسألة الفلسطينية، تريد العودة إلى "الركيزة المصرية" واستئناف حوارها "الاستراتيجي" مع مصر.
رأت واشنطن في فوز مرشح الإخوان مرسي تطوراً ديمقراطياً؛ وفي حركة تصحيح قادها قائد الجيش السيسي مدعوماً بالشعب انقلاباً.
يذكرنا هذا بمطالع ثورة يوليو 1952، حيث رحبت واشنطن بانقلاب قاده اللواء محمد نجيب، لكن أزمتها مع عبد الناصر بسبب تأميم قناة السويس، ووقف تمويل "البنك الدولي" لمشروع سد أسوان العالي، أجبرت مصر على الجنوح نحو المعسكر الشرقي، سياسياً وتسليحياً وتمويلاً للسد العالي، وقيادة تأسيس حركة عدم الانحياز بالتحالف مع يوغسلافيا ـ تيتو، والهند ـ نهرو، خلافاً لوجهة نظر وزير خارجيتها، آنذاك، جون فوستر دالاس، الذي كان لا يرى حياداً في الحرب الباردة المستمرة بين المعسكرين آنذاك.
تعترف واشنطن بمركزية مصرية في الشرق الأوسط على أن تكون حليفة لها، كما إيران ـ الشاه، وتركيا العلمانية.. وإسرائيل بالطبع وأولاً. لكن، مع قيادة مصر للعروبة، ورفضها ملء "نظرية الفراغ" في الشرق الأوسط، حسب دالاس، صارت العلاقة الثنائية عدائية، وبخاصة بعد "القرارات الاشتراكية لناصر" وقيادته للحركة القومية العربية.
ذيول حرب حزيران 1967 ألقت بظلالها الثقيلة على العلاقات المشتركة، ولم تنفرج هذه العلاقات إلاّ بعد حرب 1973 ودور أميركا في "فصل القوات" .. وصولاً إلى معاهدة كامب ديفيد 1979 والمساعدة الأميركية، العسكرية والمدنية، لمصر وإن ليس بمقدار المساعدة الأميركية لإسرائيل الحليفة الاستراتيجية.
مصر، حتى نهاية عهد مبارك، كانت ميّالة للمعسكر الغربي، ولعبت دوراً عربياً في دعم الحرب الأميركية العالمية ضد غزو العراق للكويت. لم تعد مصر محايدة في صراع المعسكرين، لكنها فقدت من مركزيتها الإقليمية والعربية.
أميركا راهنت على دور "مركزي" لمصر في هذا "الربيع العربي" ورأت في صعود الإسلاميين بالانتخاب ما يشكل سداً محتملاً أمام صعود الإسلاميين المتطرفين بالإرهاب.
يبدو أن الربيع الدموي في سورية واليمن والعراق، وخلاف واشنطن مع إيران، وفشل الحل الأميركي في فلسطين، دفع واشنطن إلى رهان جديد على تحولات ديمقراطية مصرية مناهضة للإسلاميين، وبعد "عقوبات" تسليحية وتمويلية، بتشجيع من الكونغرس، تشير زيارة كيري إلى تعديل الاتجاه في العلاقة مع مصر، بوصفها "ركيزة" ولكن ضد استشراء الفوضى والنزاع الطوائفي في دول المنطقة.
هذا لا يعني، مع تحرير التسهيلات المالية جزئياً، وكذلك المساعدات العسكرية، أن واشنطن ترى في مصر الجديدة دولة ديمقراطية حقاً، بل دولة في مرحلة "التحول الديمقراطي" بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهي لا تتخلى عن تحفظاتها إزاء ما تدعوه "قمع المعارضة" المصرية والتعديات على حقوق الإنسان، لكنها ترى الخطر الأكبر في صعود الحركات الدينية الإسلامية الأصولية الموسومة بالإرهاب والتي لم تنجح أميركا في العراق في علاجها لا أمنياً ولا سياسياً، ولا في سورية أيضاً.
كأن أميركا تنسى قليلاً أفغانستان والطالبان، وتتناسى حتى "القاعدة" إزاء خطر جديد كاسح هو "داعش" الذي يهدّد بلدان الشرق الأوسط العربية كما ترى واشنطن، ولا ترى واشنطن في تحالف تكتيكي مع إيران، ودعم لدول الخليج أمراً كافياً، دون دعم "الركيزة" المصرية سواء في تأمين سيناء (وبالتالي معاهدة كامب ديفيد) من النشاط الإرهابي، أو سياسة السيسي تجاه غزة تحت حكم "حماس".
تعود أميركا إلى سياسة دعم "الرجل القوي" الحليف لها، كما في حقبة الحرب الباردة، ولكن هذه المرة دون أن تنسى "الديمقراطية" كما كانت تفعل سابقاً. السيسي ليس حليفاً إلاّ لبلاده ودورها الإقليمي والعربي.
ليس مصادفة تماماً أن يعلن الرئيس المصري عزمه على إجراء الانتخابات البرلمانية الشهر المقبل، مع بدء تجديد علاقة مصر مع الولايات المتحدة، باعتبار أن الانتخابات البرلمانية هي الاستحقاق الثالث والأخير من "خارطة الطريق" التي أعلنها الجيش بعد إزاحة الرئيس مرسي عن الحكم.
كان السيسي أعلن أن أمن الخليج جزء من أمن مصر الاستراتيجي، وهو ما تراه أميركا وفاقاً معها، كما أعلن عن دعمه للشرعية الفلسطينية برئاسة أبو مازن، وللوفاق الفلسطيني وعودة مصر إلى دورها المركزي فيه.
إذا كان هناك ضوء في نهاية نفق هذا الربيع العربي، فإنه في مصر وتونس.