طفلاً كنت في السادسة. يدي في يد أبي. «نَترْتُ» يد أبي وسألته: يابا .. ليش طلعتوا من فلسطين.. مش عيب عليكم. أبي أشاح بوجهه، ثم التفت إليّ بعيون دامعة، وقال: لما بتكبر بتعرف. طيرة - حيفا سقطت حرباً بعد شهرين من إقامة إسرائيل.
هنا، تتذكر امتياز دياب كيف بقيت طمرة وسكانها في المكان.
(ح . ب)
* * *
بقلم: امتياز دياب
انشغلت هذه الأيام، في تعلم مهنة جديدة، ربما تدرّ عليّ عائداً مالياً لأعتاش منه، وترددت بأن أكتب لك، بسبب رعبي من عدم الفوز بإعجاب الزبون بما أخرجت لترويج بضاعته للمساهمين في شركته.
لكنني التقيت بصديق بعد غياب طويل، وبعد الحديث معه لمدة ساعتين كانتا اثمن من تبديدهما في «مهاترات» على مبادئ ضبابية المعالم او «يبسان رأس» لا أكثر كما تقول أمي، غيّرت رأيي وقررت الكتابة لك يا حسن البطل.
تذكرت وأنا برفقته بأن ذكرى النكبة يوم الخميس، تذكرت شهداء قضوا بسبب أصدقاء وشوا بهم وكشفوا هويتهم لـ (ش.ب)، تذكرت قصة حكاها لي، مناضل متقاعد: «أصدرنا أيام الانتفاضة الأولى قائمة بأسماء العملاء، ضمنّاها تهديداً بعدم الخروج من بيوتهم، وذلك منعاً لاتصالهم مع المخابرات الإسرائيلية. أتاني طفل في الثامنة وقال لي بأن والده أرسله ليسألني عن ساعة منع تجول العملاء اذا كان المقصود توقيتاً صيفياً ام شتوياً، لأن والده بحاجة للخروج من البيت، لزيارة جدتي المريضة، وهي تقطن في حي بعيد، ويخشى ان يراه أحد من شباب الانتفاضة فيقتله.
نظر المناضل المتقاعد في عيني، وتحدث بصوت الحكمة والمتعلم من دروس الحياة الخاصة به وحده، وقال: خجلت من نفسي أمام هذا الطفل، وقلت له أن يذهب ويقول لوالده بأن يخرج لزيارة جدته، التقيت مع هذا الطفل عندما صار شاباً، شعرت بالخجل ذاته وتفاديت النظر في عينيه».
تذكرت قصة حكاها لي أحد المقربين من (ابو جهاد)، بأنه كان يقول مازحاً «دعوهم يتجسسوا قليلاً».
تذكرت ان ابو جهاد مات شهيداً، بسبب الجواسيس الذين تركهم يتجسسون قليلاً.
تذكرت، قصة (اسحق شفارتس) البائع المتجول الذي دعا نفسه على الغداء لدى محمد الفالح، الذي حكى لإسحق الذي يعرفه منذ كانا شباباً، عن عدد البنادق التي يحتفظ بها في البيت، ليدافع عن آل بيته في حال هجم المحتل.
سمع محمد الفالح صوت سعال مخنوق في ساعة متأخرة من الليل، في باحة البيت، فنهض وجال النظر في ساحة الدار، فرأى اسحق، سأله: «إيش بدّك»؟ أي ماذا تريد بالفصحى، أجاب (اسحق): إيش (تعني ناراً باللغة العبرية).
ثم سمع الجيران صوت انفجار بيت محمد الفالح، حوله الى كومة من الحجارة، تراكمت فوق جسد محمد الفالح، في قرية (ميعار).
تذكرت أسف أمي على سذاجة أهل زمانها وبراءتهم التي أضاعت فلسطين، كانت تردد: «يا ولدي شو كانوا أهل زمان (هُبُل) وعلى نياتهم. هيك (تفرد أصابع يديها) فاتحين أياديهم للضيف وللغريب، راحت هيك البلاد .. والله راحت هيك».
تذكرت جدي صالح وعمي سليمان وعمي صبحي وشخصا آخر لم اعد اذكر اسمه، عندما خططوا للمقاومة بعد سقوط عكا، وطار أربعتهم على جيادهم بين الجهات الأربع، لإيهام المهاجمين بأن عدد رجال القرية هائل، بينما الحقيقة أنهم لن يصمدوا طويلاً، وصدق المهاجمون اللعبة، فانقسموا الى جبهتين وداروا حول الجهات الأربع، واعتقدوا ان العدو هو من الناحية الأُخرى، وهاجم احدهم الآخر، ثم ارسل جدي صالح رسالة لغرفة قادة المحتل في (كفار آتا) بأنهم مستعدون للتوقف عن شن الحرب وعقد اتفاقية، مقابل عدم المساس بأهالي القرية، الذين سكنوا الجبال القريبة لمدة خمسة أيام .. وهكذا سلمت قرية «طمرة» ولم يتسلل منها الى لبنان الا حفنة من الشباب.
عدت من رحلة ذكرياتي لحديث صديقي الذي كان يتحدث عن حماية العملاء وعدم قتلهم، على أساس مبادئ حقوق الإنسان، وعلى أساس «خليهم يتجسسوا شوي»، ومن الذي يقرر من هو العميل؟ الحديث طبعاً كان عن فتاة ما زال فيها رمق من الشباب الأخير، ورغبة مهددة بسني اليأس القريبة، ووعد بتصريح دائم لعبور «الخط الأخضر»، وتوبة نهائية بعدما طردت من اكثر من بلد عربي بتهم مختلفة.
ثم قال لي: «سأبقى وفياً لمبادئي، حتى لو وضعوا رصاصة في رأسي، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر».
فضلت ان اشرب من البحر طبعاً، وتركته ومبادئه وأخذت ذكريات نكبتي، مع ذكريات تحقيقات وتوقيف وملاحقات ومطاردات، كان وراءها شخص سُمح له أن يتجسس قليلاً. امتعضت فقط لأن صديقي فاقد القدرة على الاستماع للأحداث بحيادية، وفاقد للثقة بحياديتي وبأن الأمر ليس شخصياً، ولم تعد تهزني الأشياء أو تؤثر على أحكامي، لكن عجزت أمام مراهقة عابرة هوجاء سيدفع ثمنها من حوله بصمت لن يسمعه.