هل مقياس "المجزرة" هو عداد الضحايا، بالعشرات أو بالمئات، أم بطريقة الإجهاز على الضحايا بإعدامات جماعية؟
في مسيرة "داعش" الدموية والعاصفة أنها اقترفت "مجزرة" في كل موقع سيطرت عليه؛ وفي كل موقع اختلف الضحايا بين عسكريين للنظام، كما في سقوط الموصل وموقع مطار في سورية، أو مدنيين كما في حالة الإيزيديين بجبل سنجار. بين مجزرة وأخرى بالرصاص، تعمّدت خلط الردع بالانتقام الجماعي وبالترويع الفردي، مثل جزّ الرؤوس وتصويرها ونشرها.
هذه ملاحظة، والملاحظة الأخرى أنها خلاف عقيدة القتال العسكرية التقليدية، بالتركيز على جبهة واحدة وعدو واحد، فهي تقاتل على جبهات عديدة، وضد من تراهم أعداء مختلفين دينياً وطائفياً وقومياً. إنها ضد المسيحيين في الموصل؛ وضد الإيزيديين في سنجار، وضد الأكراد السنّة في شمال سورية؛ ضد العشائر السنّية في الأنبار.. وحتى ضد فصائل جهادية مثل "القاعدة" و"النصرة".
قيل في سبب الانهيار الكبير للجيش العراقي في الموصل، إن القواعد السنّية في الجيش لا تجد لها مصلحة في القتال لصالح قياداتها الشيعية الطائفية، وبذلك استمالت سكوت السنّة في ثاني مدن العراق، وهي أيضاً مدينة اقلية مسيحية كبيرة، فضلاً عن دعم بقايا الجيش العراقي المنحل لها بالخبرة القتالية التي اكتسبها من حروب نظام صدام حسين.
ما هو سبب المجزرة الأخيرة (قبل الأخيرة) في محافظة الأنبار العراقية، وهي كبرى محافظات البلاد، وذات غالبية إسلامية سنّية؟
في عامي 2004 و2005 تمكن جيش الاحتلال الأميركي من هزيمة مقاتلي "القاعدة" في هذه المحافظة، عن طريق استمالة عشائرها، وفقاً لعقيدة أميركية هي "أسلحة" القتال ضد "القاعدة".. أو "لا يفلّ الحديد إلاّ الحديد".
بعد تشكيل حكومة عراقية جديدة، أكثر توازناً طائفياً حاولت بغداد بمشورة المستشارين العسكريين الأميركيين تكرار درس هزيمة "القاعدة" عن طريق استمالة العشائر السنّية ومقاتليها.
على مدى أسابيع، أبدت عشيرة "البونمر" مقاومة شرسة في مواجهة زحف الدولة الإسلامية، ورفضت العشيرة عرضاً داعشياً بالاكتفاء برفع أعلام الحركة والانسحاب، لكن مقاتليها لم يتلقوا الدعم الكافي والمنتظر من حكومة بغداد بالرجال والسلاح والذخيرة والوقود والغذاء.. وفي النتيجة اقترف "داعش" مجزرة في قرية زاوية البونمر بإعدام جماعي بالرصاص لحوالي 300 ـ 500 من المقاتلين، وحتى من النساء والأطفال.
لأسباب يصعب تحديدها وحصرها فإن التدخل الدولي محدود الفاعلية بالقصف والإسناد الجوي، وإنزال الأسلحة، تركز على دعم صمود المقاتلين الأكراد في سورية؛ وفي مدينة عين العرب بالذات، وبشكل أكثر كثافة وفاعلية من إسناد ودعم قوات البشمركة، وهي جيش إقليم كردستان ـ العراق.
خلاف "القاعدة" التي رفعت راية الجهاد وركزت بداية على الإرهاب الدولي عابر القارات، قبل أن تخوض معاركها في أفغانستان واليمن وتركّزها في العراق وسورية؛ فإن "داعش" بنى جهاز إدارة في المناطق التي سيطر عليها، وفرض نظام "حياة إسلامية" على سكانها، وتمكن من تمويل ذاتي معين لموارد الحرب والإدارة بالسيطرة على حقول نفط، وكذلك بناء قوته العسكرية بغنائم من الأسلحة الثقيلة التي غنمها من انهيار الجيش العراقي في الموصل، ومن قواعد الجيش السوري في الجزيرة السورية، بما فيها دبابات ومدفعية وحتى صواريخ، أي شكلت "الدولة الإسلامية" "جيشاً" و"نظاماً" و"إدارة" بما يكفي للادعاء بأنها دولة ولو لا يعترف بها أحد.
عدا هذا، تلقى دولة داعش الإسلامية رفداً من أجنحة بقية الفصائل الجهادية المنافسة بإعلان المبايعة والولاء لها، وبالذات من المتطوعين الأجانب، وبعضهم لديه خبرات تكنولوجية متقدمة في وسائل القتال والاتصال، وهم صاروا يشكلون ما يشبه "أممية إسلامية" من 80 دولة إسلامية أو غير إسلامية.
هل وصلت الظاهرة الداعشية إلى ذروة سطوتها وقوتها، أم أن التحالف الدولي والإسلامي سوف يوقفها؟ هناك عسكريون واستراتيجيون يرون أنها ستكون معركة ممتدة الأجل، حتى عشرين عاماً مثلاً، وأن نموذج "فتنمة الحرب" الأميركي الذي ينجح يشير إلى أن نموذج "أسلمة" الحرب قد لا ينجح بدوره، وأن الحرب الجوية لن تحسم دون حرب برية.
مع ذلك، فإن تنافسات وصراعات الحركات الجهادية هي التي سوف تضعف اندفاعة "داعش" في التحليل الأخير.