علي الأمين
ليس سعيد عقل من صنف البشر العاديين، أي اولئك الذين يعبرون جسر الحياة الدنيا من دون ان يثيروا زوبعة من الاسئلة او من دون ان يرسموا دهشة في القلب قبل الوجه، ويحفرون بصماتهم في العقل قبل السّمع والبصر. سعيد عقل من هؤلاء واكثر، هو فيلسوف اللبنانية، اللغوي، العبقري، رمز العنفوان اللبناني، هو اكثر من ذلك هو الشاعر، وكفى... فالشعر مملكة سعيد عقل وبه يعْرفُ الشعر وبقامته الباذخة عنفوانا ومعرفة يُعرّف الشعر، وهل احلى واعمق واغنى من شعره في الشعرْ:
الشعر قبضٌ على الدّنيا، مُشعشعةً
كما وراء قميص شعشعت نُجمُ
فأنت والكون تياهان: كأسُ طلاً
دُقت بكأسٍ، وحُلْمٌ لـمَّهُ حُلُمُ
قرن من العمر واكثر، لم يكن سعيد عقل منذ ولدته امّه التي ربما ما احب امرأة سواها، الا صاحب قضية اسمها الجمال، هكذا رسم لبنان في مخيلتنا "هوبين الله والارض كلام"، ولبنانه رسالة جمال ومعرفة وحب لذا كان هاجسه لببننة العالم. سعيد عقل رثى كبار الشعراء والمفكرين من احمد شوقي الى طه حسين ومن خليل مطران الى الشاعر محمد مهدي الجواهري، وفي كل قصيدة رثى فيها كبيراً من لبنان او العرب، كان شاعر اللغتين ( الفصحى والمحكية) متفرداً بهذه الجرأة الادبية والاجتماعية في ابراز ذاتيته من دون تقليل من شأن المرثي، بل ترفع القصيدة الراثي والمرثي ولا تخل بميزان الادب او المقام. فقط سعيد عقل كان من يستطيع الى ذلك سبيلا وهو القائل في رثاء شاعر القطرين خليل مطران ابن بعلبك:
هابةُ الأرز، بنتُ الفارسيِّ، أنا
نبكيكَ، فلْتتغاوَ الستّةُ العُمُدُ
ومن تُرى قال: ليستْ سبعةً ؟ أنَذا
عيني إليكَ، ألا فلْيَكْمُلِ العددُ
العنفوان والكبرياء الشاعريان الطالعان من شعر وشخصية سعيد عقل، هما محصلة معادلة بشرية غيبية اقرب ما تكون لمركب الشخصيات الاسطورية، او شخصيات استثنائية في التاريخ، من هنا كان شاعر لبنان وفيلسوفه، مأخوذا بالاسطورة او الحلم الكبير، الذي جعل في جانب من شخصيته فيلسوفا ومبشرا بلبنان الازلي. وهو في عبقريته الشعرية لا تواضع لديه، لطالما تباهى خلال بعض لقاءات استقبلني فيها بمنزله، بأنه تفوق على باقي الشعراء في قاموسه الشعري، وزادت مفرداته في نتاجه الشعري على من عداه من شعراء العرب.
وسعيد عقل زارنا مرة نحن شلة من شباب قبل نحو عقدين من الزمن من دون سابق موعد ولا استجابة لدعوة، حضر واستمع الى مساهمات شعرية او سياسية في ندوة نعقدها كل اسبوعين، منوّها حينا بما يقال او مستدركا بجملة تضيف نكهة وبعدا جديدين. كان مكان اللقاء في الضاحية الجنوبية، وكان يأتي بفرح طفل، هكذا قالها لي انه كيف حكى لصديقته ومساعدته في المنزل، كيف كان استقباله وهو يلقي الشعر في امسية حاشدة دعوناه اليها في المنطقة نفسها، كان فرحا كطفل بما لاقى من ترحيب واستقبال وتفاعل لم يكن يتوقعه.
عاش سعيد عقل وتجاوز القرن من العمر ومثله لا يموتون، لانه استطاع بأدبه ان يساهم اكثر بكثير مما ساهم به رجال السياسة في بناء العقل والارادة وحب الجمال في لبنان، وسيبقى سعيد عقل متوهجا حبا عندما تكون كل الرموز السياسية قد غادرت هذه المعمورة وغادرت اسماؤها معها.
لعله ليس صدفة ان يرحل سعيد عقل والفنانة اللبنانية صباح في مفصل سياسي وتاريخي يعيشه لبنان اليوم، سعيد عقل وصباح وكل من موقعه وتجربته، انهما لبنانيان لا في مكان الولادة او الجنسية او حب الوطن فحسب، بل في انهما يرمزان الى وطنية لبنانية ساهما في بلورتها في الثقافة والشعر وفي الحلم كما فعل سعيد عقل، وفي بلورة الهوية الفنية لهذه الوطنية اللبنانية كما فعلت صباح. في رحيلهما اليوم ننتبه الى ان لبنان لم يكن خطأ تاريخيا كما قال بعضنا نحن اللبنانيين وغيرهم، نكتشف اليوم ونحن نودع سعيد عقل كم ان لبنان الوطن هو حقيقة، ليس بحدوده وشعبه المثقل بالجروح فحسب، بل بقوة الفكرة التي كان سعيد عقل وحتى صباح وغيرها ممن ساهموا في في بناء الذاكرة الوطنية وفي صياغة الحلم اللبناني... هذه الفكرة مهما قيل فيها لم تستطع فكرة بديلة ان تهزمها او تطويها...