علي الأمين
ليس الوقت لفلسطين ولم تعد شماعة القضية الفلسطينية كافية لتغطية ما يرتكب باسمها على امتداد المنطقة العربية. فالتدمير الذي تشهده الدول العربية على المستوى الاجتماعي والحضاري قبل الاقتصاد والعمران، كشف الى حدّ بعيد كم ان القضية الفلسطينية كانت وسيلة لغاية النفوذ والتسلط، سواء من قبل الانظمة الاستبدادية، ام الكثير من قوى وجهات حزبية جعلت من القضية الفلسطينية جسرا للعبور نحو السلطة.
ليس جديدا القول ان الجرائم الكبرى، في السياسة والاجتماع، دائما كانت لدى مرتكبيها فكرة مثالية تبرر ارتكاباتهم. فلسطين كما الاسلام كما الوحدة العربية والاشتراكية، شكلت في محطات تاريخنا الحديث عناوين كبرى لتغطية سياسات وسلوكيات اجرامية، وجسرًا للعبور نحو السلطة والنفوذ.
الحديث عن فلسطين اليوم في لبنان وسورية، في احسن الاحوال، هو محاولة لتبرير سياسات الحروب الاهلية العربية. تلك التي تنتشي بدمائها كل من تدّعي قوى الممانعة انها تحاربها. فلسطين لا تستحق جريمة المشاركة في تدمير سورية، ولا تشريد الشعب السوري كرمى نظام عائلي وطائفي، ولو كان يرفع شعار الممانعة. الاتصال الهاتفي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيمين نتنياهو أمس، الذي خلص الى تأكيد التنسيق بين اسرائيل وروسيا مكافحة الارهاب، يكفي لتنظر الممانعة، وهي تحتفي ببوتين، الى اي درك وصلت.
تجارة الممانعة وفلسطين لم تعد مجدية، لذا صارت الهوية الطائفية والمذهبية هي السبيل والتعويض عما خسره الممانعون، والاحتماء بالدول الكبرى وسيلة من وسائل البقاء والنفوذ ولو على حساب تدمير المجتمعات والدول.
اننا في مرحلة تهافت خطاب الممانعة وايديولوجياتها، وفي نهاياتها البائسة التي لن تنتهي الا مع نهاية مهمتها في التدمير المجتمعي على امتداد الدول العربية. اما قصة العداء للامبريالية في زمن الاتفاق النووي مع الشيطان الاكبر، فهي خدعة جديدة وشعار للاستهلاك ولمزيد من الانكفاء نحو العصبيات المذهبية والطائفية. والا فالعدو الذي يواجه اميركا هو من تتحالف الدول ضده من العرب والعجم: ابو بكر البغدادي خليفة المسلمين وحامل شعارات كل الاسلاميين من ايران الى افغانستان. البغدادي هو عدو الغرب واتباعه والمتعاونين معه. عداء الغرب له لا يجعل منه شريفًا ولا صاحب قضية محقة، ان تكون عدوا للغرب الاميركي او الروسي، لا يعني انك انت الصواب.
لذا لا يكفي ان ترفع شعار تحرير فلسطين لتصبح شريفا، ولا يعني ان تفجر نفسك في مدينة اسرائيلية لتقتل اسرائيليين لتصبح بطلا مقاوما، ولا يكفي ان ترفع شعار تحرير القدس ليصبح قتالك مشروعا في المدن السورية واريافها. الهزيمة ليست في نقص القدرات العسكرية في دولنا العربية، بل لوهم يسقط اليوم، وهو ان معيار الهزيمة والانتصار يتم قياسه بمعيار البندقية والسلاح، وليس بمعيار التقدم الاقتصادي والعلمي والمعرفي. البندقية ولغتها اختصرتا معادلة الصراع مع اسرائيل لذا انتصرت اسرائيل، ولم تتحرر فلسطين فيما هذا السلاح يتكفل بتدمير سورية واليمن والعراق.
انكفاء مجتمعاتنا نحو خيارات الهوية الدينية والمذهبية هو الهزيمة النكراء التي نتعرض لها، وهي هزيمة حضارية يجب ان نقرّ بها. ولا يمكن لشعار تحرير فلسطين اليوم ان يكون مدخلا لنهاية المأزق الحضاري المتراكم الذي وقعت فيه دولنا. لقد تحول شعار المقاومة وتحرير فلسطين، في ادبيات الصراعات الاهلية اللبنانية والسورية والعربية، الى سبيل لمزيد من الاضرار بالقضية الفلسطينية، والى مزيد من تسعير القتال الاهلي، ولم نلحظ ان هذا الشعار ساهم في التخفيف من نزف الدماء او تراجع الكراهية في مجتمعاتنا.
الجواب السهل الذي يعفي مدّعي تحرير فلسطين، من غير الفلسطينيين، من اي نقد او مساءلة، هو القول ان هدفهم المقاومة وتحرير فلسطين. باعتبار ان هذا الشعار كفيل بتبييض صفحتهم من كل الارتكابات والخطايا، لأنها ارتكبت من اجل فلسطين. فيما المطلوب شيء آخر تماما. المطلوب بناء مصادر القوة والتواضع في الشعارات، اذ كلما كانت الشعارات كبيرة كلما مهدت لارتكابات اكبر من قبل اصحابها، بوعي او عن جهل.
قيمة الانسان بما يحسن، وقيمة المجتمعات والدول بما تقدم من نموذج جاذب للعيش لا للموت. صناعة الحياة تتطلب صناعة مثالها الحي على الارض. مجتمعات لا تنتج، وحكومات لا تحسن او لا تريد الاعلاء من قيمة العمل والانتاج، هي تنتج مجتمعات وافرادا لا يثقون بذواتهم، ولا بقدراتهم ولا بوجودهم الانساني. مجتمعات كهذه تهتز وتتفتت في مواجهة ايّ تحدّ حقيقي، فتنكفىء الى عصبياتها وخوفها والى شعورها العميق بالهزيمة. مجتمعات كهذه تقوم على افراد لا يعرفون الا الطاعة لفتوى الزعيم او رجل الدين. وهنا جوهر القضية. ولن يحلها شعار تحرير فلسطين.