بقلم - خير الله خير الله
مرّت قبل ايّام الذكرى الـ19 لغزوتي واشنطن ونيويورك اللتين نفذّهما تنظيم إرهابي اسمه "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن. استطاع بن لادن، الذي هو في الأصل من صناعة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إي) تغيير العالم نحو الأسوأ، اقلّه بالنسبة الى إجراءات السفر وامور كثيرة غيرها، وجرّ اميركا الى حربين ما زالتا غير مضمونتي النتائج. هذا ما سيذكره التاريخ عن رجل، من نتاج مدرسة الاخوان المسلمين، تستّر بالدين ليغطي الإرهاب.
بعد 19 عاما لا يزال الحدث الذي غيّر العالم يثير السؤال نفسه: لماذا قررت الادارة الاميركية الردّ على "القاعدة" في العراق قبل ان تنتهي من حرب أفغانستان التي كانت تؤوي بن لادن وتقدّم له الحماية في ظلّ حكم "طالبان؟". انّه بالفعل سؤال محيّر نظرا الى انّ الولايات المتحدة لم تكن في تلك المرحلة مهيّأة لخوض حربين كبيرتين في وقت واحد. اكثر من ذلك، لم تكن تدري ما الذي يُفترض عمله بعد اسقاط نظام "طالبان" في أفغانستان ولا بعد اسقاط نظام صدّام حسين في العراق. تحوّل العراق وأفغانستان الى مستنقعين لاميركا بكلفة كبيرة، بالرجال والعتاد والمال. صار عمر السؤال 19 عاما، ولا يزال هذا السؤال سؤالا.
استطاعت الإدارات الأميركية الخروج بصعوبة من المستنقع الافغاني، من دون ان يعني ذلك ان أفغانستان صارت بلدا قابلا للحياة. كلّ ما فعلته انّها وضعت قواتها في مأمن عن هجمات "طالبان" لا اكثر. امّا العراق، فلا يزال يعاني بعدما قدّمته اميركا على صحن فضّة الى ايران.
الأسوأ من ذلك كلّه، ان تفاعلات الزلزال العراقي ما زالت مستمرّة على صعيد المنطقة كلّها بعدما اختلّ التوازن فيها. ليس مستغربا انّ تعمل ايران، النشطة في العراق منذ فترة طويلة، على تحويل هذا البلد المهمّ الى مزرعة من مزارعها، علما انّ ليس ما يشير الى انّها ستنجح في ذلك. كذلك، ليس مستغربا ان تعمل تركيا في هذه الايّام على السعي الى ايجاد موقع في العراق مستغلّة ثغرات كثيرة في مقدّمها تراجع المشروع التوسّعي الإيراني على غير صعيد وفي غير مكان. مثل هذا التراجع عائد الى سببين. أولهما العقوبات الإيرانية التي كشفت ان ايران ليست سوى نمر من ورق، والآخر تصفية الاميركيين لقاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الذي لعب دورا في جعل المشروع التوسّعي الإيراني حيّا يرزق في غير منطقة من العالم، خصوصا في سوريا ولبنان والعراق واليمن والبحرين.
لا تزال القوات الأميركية في أفغانستان منذ غزوتي واشنطن ونيويورك. ولا تزال القوات الأميركية في العراق منذ العام 2003. ليس ما يشير الى حل قريب في أفغانستان التي تعاني من مشاكل كثيرة في غاية التعقيد. امّا وضع العراق، فيبدو انّ فيه بارقة أمل في ظل حكومة مصطفى الكاظمي التي تحاول بدورها الاستفادة من تراجع المشروع الإيراني والهجمة التركية كي تعيد العراقيين الى العراق. ليست الزيارة الأخيرة لمصطفى الكاظمي لإقليم كردستان سوى محاولة واضحة للملمة العراق ومعالجة الشرخ الذي تسببت به الحكومات المتلاحقة، بدءا بحكومة نوري المالكي وانتهاء بحكومة عادل عبدالمهدي، وبينهما حكومة حيدر العبادي الذي لم يعرف بدوره لعب دور بناء في مجال التعاطي مع الاكراد الذين لم تكن حساباتهم دقيقة في كلّ الاحيان.
يبقى السؤال لماذا الذهاب الاميركي الى العراق بعد احداث الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001. هل صحيح ان "أوامر من الله" صدرت الى بوش الابن كي يشنّ حربه على العراق؟ هذا التعبير الصادر عن الرئيس الأميركي السابق نفسه، نقله عنه مسؤول عربي كان برفقة احد الزعماء العرب التقى ببوش الابن في البيت الأبيض في آب – أغسطس من العام 2002. ذهب هذا الزعيم العربي الى واشنطن لتحذير الرئيس الأميركي من الذهاب الى العراق من دون اعداد جيد لمرحلة ما بعد سقوط صدّام حسين... ومن الخلل الذي سيحدث في المنطقة في غياب العراق. يقول هذا المسؤول ان الزعيم العربي "صُدم" بردّ بوش الابن على تحذيره.
في كلّ الأحوال، يظلّ مفيدا التذكير بانّ المنطقة كلّها تغيّرت، مثلما تغيّر العالم، بعد غزوتي واشنطن ونيويورك وانهيار برجي مركز التجارة العالمي. مع انهيار البرجين انهار ايّ اهتمام أميركي بمصير الفلسطينيين. هذا ما لم يدركه، في حينه، ياسر عرفات الذي يعتبر من ضحايا أسامة بن لادن. فبعد الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001، قسّم جورج بوش الابن العالم الى قسمين. من هم معنا ومن هم ضدّنا. لم يعد من مكان لوسيط أميركي بين إسرائيل وفلسطين، خصوصا انّ "حماس" تابعت وقتذاك عملياتها الانتحارية التي صبّت في مصلحة إسرائيل ومن يقفون خلفها في واشنطن.
في النهاية، لا يزال السؤال مطروحا ولا يزال السؤال يبحث عن جواب: لماذا ذهبت اميركا الى العراق؟ هل صحيح ان تحريض الراحل احمد الجلبي كان كافيا لتصوير تلك الرحلة العسكرية الأميركية بانّها اشبه بنزهة وان كلّ شيء سيكون على ما يرام بمجرّد سقوط النظام القائم في العراق؟
ليست فلسطين وحدها التي تدفع ثمن 11 سبتمبر 2001، العراق نفسه دفع ثمنا غاليا، نظرا الى النظام الذي تأسس في العام 2003 ليس قابلا للحياة. ما يحاول مصطفى الكاظمي حاليا ترميمه هو عراق تفتت بفعل الميليشيات المذهبية التي لا تزال الصناعة المفضّلة لـ"الجمهورية الإسلامية". في الواقع، لم يعد الامر مقتصرا على العراق بعدما فعل المشروع التوسّعي الإيراني فعله في سوريا ولبنان أيضا. صار البلدان في مهبّ الريح نتيجة حرب أميركية أدخلت الشرق الأوسط في حال من اللاتوازن وادت عمليا الى صعود ثلاث قوى غير عربية هي ايران وتركيا وإسرائيل. هل هذا كان مطلوبا من دفع إدارة بوش الابن الى الذهاب الى بغداد؟
الأكيد بعد اقلّ بقليل من عقدين على غزوتي واشنطن ونيويورك انّ أسامة بن لادن استطاع إعادة تشكيل الشرق الأوسط. لم يهجم على البنتاغون ولم يدمّر برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك فحسب، بل دمرّ النظام الإقليمي في كلّ منطقة المشرق العربي أيضا.