مواقفنا من التعذيب في رومية

مواقفنا من التعذيب في رومية

مواقفنا من التعذيب في رومية

 العرب اليوم -

مواقفنا من التعذيب في رومية

حازم صاغية

وجد جلاّدو سجن رومية، على رغم فظاعة الفيديو الدامغة، مَن يتعاطف معهم ما دام ضحاياهم من السنّة. لكنّهم وجدوا أيضاً من يحقد عليهم، لا لأنّهم جلاّدون، بل للسبب ذاته، وهو أنّ الضحايا من السنّة. والطرفان المتضادّان يغرفان، في آخر المطاف، من البحر ذاته، حيث الطائفيّ يبيع كلّ نفسه لطائفته ولا يترك منها مكاناً لحسٍّ نبيل. هكذا يضمر العداء للتعذيب لمجرّد أنّه تعذيب، كائناً ما كان دين مَن يُعذّب أو مذهبه أو رأيه، ليحلّ محلّه السؤال عن هويّته الطائفيّة شرطاً مسبقاً لتكييف المشاعر ولإعلان الموقف.

واليوم تحديداً يبدو من المغري للبعض أن يكونوا سنّة متشدّدين بقدر ما هو مغرٍ للبعض الآخر أن يتشدّدوا في مناهضة السنّة: في الحالة الأولى، ووفقاً للقاموسين المتبادلين، هناك الاضطهاد المتمادي على أيدي الأقلّيّات، والتعرّض لمؤامرة فارسيّة، إن لم تكن كونيّة، فضلاً عن التماهي مع «الأمّة» مقابل الجماعات والملل، ومع الأرض الفسيحة مقابل الرُقع والزوايا. وفي الحالة الثانية، هناك العلمانيّة ومناوأة التخلّف والعثمانيّة السلطانيّة والمنطق الذمّيّ المتوارث، وقد أضيف إليها مؤخّراً الذعر من «داعش» وأشباهه.

وإذا كان الطرف الأوّل في تسمّره بسنّيّته لا يعبأ بمراجعة الهندسة التي هُندست عليها المنطقة لمئات السنين قبل ثورة الخميني أو قيام إسرائيل، والتي تتبدّى أوضاعنا الراهنة ثمرة من ثمارها، فإنّ الطرف الثاني، في تسمّره بمناهضة السنّة، مستعدّ أن يكتشف الفضائل في الجلاّدين، أكان الجلاّد في سجن رومية، أم في قصر دمشق وهو يغسل يديه من براميل أسقطها على رؤوس الصغار والكبار، أم في ناقل عبوات كميشال سماحة ما دامت عبواته تستهدف شيوخاً سنّةً.

ويبدو مفهوماً أن يضاعف القلقُ المتعدّد المصادر والأسباب الطلبَ التثبيتيّ على هويّة صغرى، فيما اللبنانيّةُ تفقد كلّ قدرة على توفير الهويّة، هذا إذا امتلكتها أصلاً. فالهويّة الصغرى اليوم بديلنا التعويضيّ عن الاهتزاز الذي ضرب المقوّمات الماديّة لوجود اللبنانيّين، معطوفاً على العصف الذي يطيح اجتماع المنطقة وخرائطها.

لكنّ التعبئة الطائفيّة لدينا تكاد تغدو قطيعة مع كلّ قيمة كونيّة جامعة، كرفض التعذيب، أو العداء لتطهير عرقيّ نزل «بسوانا»، أو الاشمئزاز من قطع رأس مارسه واحد «منّا» بواحد «منهم». والكلّ اليوم مستعدّون أن يسيطروا على مشاعرهم وأن يكيّفوها بما يلائم انحيازهم الماهويّ. هكذا ينزعون إنسانيّة إنسان الطائفة الأخرى فيجرّدونه منها تبريراً لتعذيبه أو تطهيره أو ذبحه. وهنا، لا تستوعب ثنائيّةُ سنّيّ – أنتي سنّيّ كلَّ مساحة الكراهية، إذ تُجاورها ثنائيّات أخرى لا تقلّ أذى وفداحةً، كعربيّ – كرديّ ومسلم – مسيحيّ... أمّا الذي لا يزال ينتصر للقيمة الكونيّة، داعياً الجماعتين المتصارعتين إليها، من غير أن ينتصر لهذه أو تلك من الجماعتين، فلن يأتيه من الأخيرتين معاً إلاّ الطعن والتشكيك.

والحال أنّ التعذيب ليس جديداً، وهو بالطبع ليس خاصّاً بنا، كما أنّ التحديث العسكريّ والأمنيّ للتعذيب ليس جديداً ولا خاصّاً بنا. الجديد ربّما أنّ الموقف منه يغدو اليوم أشدّ علنيّة وصراحة فيما يكاد يحاذي خطوط الانقسام الطائفيّ والإثنيّ. وهذا إنّما ينمّ، فضلاً عن سقوط الأقنعة والبراقع جميعها، عن استفحال نزعتي التدمير والتدمير الذاتيّ لدينا: فالذي يستسيغ جلاّداً ساديّاً لمجرّد أنّه يكره «داعش» السنّيّ يفوته أنّ سلوك هذا الجلاّد ليس إلاّ أقصر الطريق إلى تكثير «داعش» وتعزيزه، وتاريخ أنظمة الاستبداد مع شعوبها شاهد بليغ على ذلك. أمّا الذي يهوّن أمر «داعش» لأنّه من أبناء جلدته، ولأنّه خصم خصمه، فلا يفعل غير استضافة «داعش» إلى صحن داره بما يفضي إليه ذلك من تحكيم للموت والعدم...

وكلّ من يظنّ نفسه إزميل الحقّ الذي يضرب صخر الضلالة لا يدقّ المسامير إلاّ في رأسه. وأحد هذه المسامير الكبرى فيديو التعذيب الأخير في رومية بوصفه بُومة خراب عميم ينتظر لبنان الذي يتمدّد السمّ في أحشائه.

arabstoday

GMT 06:31 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

الثلج بمعنى الدفء

GMT 06:29 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

فرنسا وسوريا... السذاجة والحذاقة

GMT 06:27 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

التكنوقراطي أحمد الشرع

GMT 06:25 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

جدل الأولويات السورية ودروس الانتقال السياسي

GMT 06:23 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

ليبيا: لا نهاية للنفق

GMT 06:21 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

الصناعة النفطية السورية

GMT 06:19 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

دمشق وعبء «المبعوثين الأمميين»

GMT 06:14 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

حرية المعلومات هى الحل!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مواقفنا من التعذيب في رومية مواقفنا من التعذيب في رومية



الأسود يُهيمن على إطلالات ياسمين صبري في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم
 العرب اليوم - يحيى الفخراني يختار التمثيل ويترك مهنة التدريس في كلية الطب

GMT 02:56 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

مقتل وإصابة 40 شخصا في غارات على جنوب العاصمة السودانية

GMT 10:42 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

عواقب النكران واللهو السياسي... مرة أخرى

GMT 10:46 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

إيران بين «طوفان» السنوار و«طوفان» الشرع

GMT 07:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 10:22 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

توتنهام يضم الحارس التشيكي أنطونين كينسكي حتى 2031

GMT 10:38 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

المشهد في المشرق العربي

GMT 10:27 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

سبيس إكس تطلق صاروخها فالكون 9 الأول خلال عام 2025

GMT 08:03 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 14:02 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

الاتحاد الإسباني يعلن رفض تسجيل دانى أولمو وباو فيكتور
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab