قبرص ونموذجها أمام «الحالة الذعريّة» اللبنانيّة

قبرص ونموذجها أمام «الحالة الذعريّة» اللبنانيّة

قبرص ونموذجها أمام «الحالة الذعريّة» اللبنانيّة

 العرب اليوم -

قبرص ونموذجها أمام «الحالة الذعريّة» اللبنانيّة

بقلم - حازم صاغية

حين هدّد زعيم «حزب الله» جزيرة قبرص، عبّر لبنانيّون كثيرون عن امتعاضهم. فقبرص عضو في الاتّحاد الأوروبيّ، والإشكالُ معها إشكال معه، وهي مصدر لفرص عمل ولفرص مشاريع للبنانيّين كثيرين، بعضُهم تملّك فيها أو أقام، كما أنّها ملجأ لمن يفرّون من النزاعات الأهليّة، أو مَعبر يُستخدم للسفر في حالات التوتّر التي تزدحم بها حياة اللبنانيّين. كذلك قيل بحقٍّ أنّ من يخوض صراعاً عنيفاً، كالذي يخوضه «حزب الله»، يُستحسن به أن يوسّع دائرة أصدقائه، لا دائرة أعدائه، متفادياً المواجهات التي يمكن تفاديها. ثمّ إنّ شأن العلاقة بقبرص، حرباً أو سلماً، شأن سياديّ يُفترض أن تختصّ به الدولة، لا حزب مسلّح بعينه...

وهذه كلّها عناصر وجيهة لكنّ وجاهتها لم تستوقف «حزب الله»، كما أنّ عناصر وجيهة مماثلة لم تستوقفه حين وتّر علاقات لبنان بدول الخليج.

واقع الحال أنّ ثمّة سبباً أعمق، ولو أنّه أكثر خفاء، يفسّر السلوك الأخير حيال قبرص. وهذا ما يمكن أن نسمّيه نشر منطق ذُعريّ (alarmist) مفاده أنّنا مُستهدَفون بما يجعل القتال قدرنا: فنحن عرضة للأطماع وللغزو أقاتلْنا أم لم نقاتل، وبغضّ النظر عن امتلاكنا الصواريخ أو عدم امتلاكها، وواقعٌ كهذا لا يغيّره تحوّل سياسيّ يحصل عندنا أو في إسرائيل أو في العالم. وبدوره فإنّ التاريخ كلّه، منذ 1948، كان على هذا النحو، وهو هكذا سيبقى إلى يوم القيامة. وتبعاً للمنطق الذعريّ إيّاه يُستبعد كلُّ تحديد لنهاية الصراع، فلا نقول مثلاً: إذا انقضى كذا من الأعوام، أو إذا سقط كذا من القتلى، أو إذا استعيدت البلدات والقرى الفلانيّة، فعندها نُنهي المقاومة. ذاك أنّ النظريّة الذعريّة تجعل التهديد جوهراً من صميم الأشياء، ومن صميم تعريفنا الذاتيّ، جوهراً لا تغيّره أزمنة أو تحوّلات بعينها، بل يستلزم منّا أن نقاتل في هذه الأرض، وفي «ما بعدها» وفي «ما بعد بعدها». فالموت والذعر متشابهان في كونهما يعلنان القطيعة مع الحياة التي يتمسّك بها «الجبناء». أمّا الفارق بين الموت والذعر فإنّنا مُطالبون بالإقرار والتسليم بالأوّل الذي لا يُردّ، ومُطالبون بالقتال، تحت تأثير الحالة الذعريّة، بحيث ندخل في حالة موتيّة دائمة قبل أن نموت.

والحالة الذعريّة، التي عمّمها كلّ من جرّوا بلدانهم وشعوبهم إلى حروب لم ترغب في خوضها، تتطلّب انتزاع الميليشيا المقاتلة «حقّاً» مطلقاً في القتال. فما دام أنّ الذعر دائم ومطلق، أي من الأمور التي لا تندرج في الاستثناء، انتفت صفة الاستثناء عن مواجهته، فهي الأخرى دائمة ومطلقة، بل طريقة موتيّة في الحياة. وبموجب نشر هذا الوعي الذعريّ يغدو مطلوباً، وعلى نحو دائم، توسيع ساحات الصراع وإثراؤها بأعداء جدد. فهذا إنّما يدلّ على حيويّة الصراع نفسه وعلى قابليّته للتمدّد، والحيويّةُ والتمدّد ينهلان من نبع البيولوجيا، وعلى أنّه باقٍ معنا ما بقي في أجسادنا شيء ينبض.

وقبرص مواتية لأن تلعب هذا الدور، ليس فقط لأنّها صغيرة وضعيفة (ما جعل زعيماً أسبق عهداً هو أنطون سعادة يرشّحها، في ثلاثينات القرن الماضي، لأن تكون مدى حيويّاً لأمّته السوريّة المزعومة)، بل أيضاً بسبب نموذجها. ذاك أنّ المراقب لا يتعب من ملاحظة حجم التبايُن بين لبنان في ظلّ «حزب الله» والجزيرة المجاورة، علماً أنّ المسافة الجويّة بينهما لا تتجاوز النصف ساعة. فقبرص، بالمناسبة، لديها أيضاً قضيّة، بالمعنى المتداول لهذه الكلمة: فهي تعيش تقسيم أمرٍ واقع يعود إلى 1974، حيث تقوم «دولة قبرصيّة» أخرى على 37 بالمئة من مساحتها، وهذا ما يعزّزه احتلال تركيّ لذاك الشطر الشماليّ انقضى عليه نصف قرن.

والقبارصة لم يقولوا مرّةً إنّهم تخلّوا عن الجزء المحتلّ، لكنّهم رهنوا أمر تحريره بالسياسة والعلاقات الدوليّة وبانتظار ظروف تكون أشدّ ملاءمة في الجوار وفي العالم. وإذ اختاروا تجنّب الحرب ما وسعَهم ذلك، فإنّهم آثروا، في هذه الغضون، الانصراف إلى أمورهم بتحسين ديمقراطيّتهم وتعميق أوروبيّتهم، تبعاً لافتراض يقول إنّ القوّة لا تُكتَسَب بالسلاح وحده. أمّا العكس تماماً فهو ما يُلاحَظ في التجربة اللبنانيّة، حيث نعوّل على قتال يزيد في عزلتنا وفي ضرب الصدقيّة السياسيّة لبلدنا في المنطقة والعالم، فضلاً عن تقويض كلّ إصلاح والازدراء بكلّ تقدّم ممكن.

وهذا مصدرٌ لوعي إمبراطوريّ يستند إلى الفهم الأحاديّ للقوّة كما يرعاه «حزب الله». وقبل 1975 كان هناك كثيرون من اللبنانيّين الفولكلوريّين الذين يتغنّون بلبنان بوصفه إمبراطوريّة أو معجزة أو رسالة، وكان هؤلاء يثيرون قهقهتنا. أمّا اليوم، فعلينا أن نصدّق، فيما ندفن ضحايانا، أنّنا إمبراطوريّة مدجّجة بالسلاح تتحدّى العالم وتستفزّه، لا تستوقفها حياة ولا خطر، ولا اقتصاد أو صحّة أو تعليم، فكيف تستوقفها جزيرة ضعيفة ذات نموذج كريه يحبّ الحياة؟

arabstoday

GMT 00:16 2024 الجمعة ,28 حزيران / يونيو

المنسيون بين المتعالي والشعبوي

GMT 00:32 2024 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

حاذروا الأمزجة في الحرّ

GMT 00:29 2024 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

نعم لغزة وفلسطين ولا للميليشيات

GMT 00:27 2024 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

الحج بين المثوبة والسلامة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قبرص ونموذجها أمام «الحالة الذعريّة» اللبنانيّة قبرص ونموذجها أمام «الحالة الذعريّة» اللبنانيّة



درّة تتألق بفستان من تصميمها يجمع بين الأناقة الكلاسيكية واللمسة العصرية

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 13:59 2024 الخميس ,27 حزيران / يونيو

مصر تُغلق مدارس سودانية مخالفة مقامة بأراضيها
 العرب اليوم - مصر تُغلق مدارس سودانية مخالفة مقامة بأراضيها

GMT 12:22 2024 الخميس ,27 حزيران / يونيو

كيمياء الدماغ تكشف سر صعوبة إنقاص الوزن
 العرب اليوم - كيمياء الدماغ تكشف سر صعوبة إنقاص الوزن

GMT 13:39 2024 الخميس ,27 حزيران / يونيو

ضبط طالب مصري أدار مجموعات للغش عبر الـ"فيسبوك"
 العرب اليوم - ضبط طالب مصري أدار مجموعات للغش عبر الـ"فيسبوك"

GMT 14:29 2024 الإثنين ,24 حزيران / يونيو

الإفراط في تناول الفلفل الحار قد يُسبب التسمم

GMT 12:22 2024 الخميس ,27 حزيران / يونيو

كيمياء الدماغ تكشف سر صعوبة إنقاص الوزن

GMT 05:59 2024 الخميس ,27 حزيران / يونيو

3 شهداء في قصف إسرائيلي على منطقة الصبرة وسط غزة

GMT 19:03 2024 الأربعاء ,26 حزيران / يونيو

عودة أوكرانيا

GMT 04:27 2024 الخميس ,27 حزيران / يونيو

رونالدو يحقق أسوأ رقم في مسيرته الدولية

GMT 02:50 2024 الخميس ,27 حزيران / يونيو

كيف يكون الحل سودانياً؟
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab