عن مفهوم «الجنوب العالمي» الرائج اليوم

... عن مفهوم «الجنوب العالمي» الرائج اليوم

... عن مفهوم «الجنوب العالمي» الرائج اليوم

 العرب اليوم -

 عن مفهوم «الجنوب العالمي» الرائج اليوم

بقلم - حازم صاغية

أحرز مفهوم «الجنوب العالميّ» (أو الكونيّ) في مقابل «الشمال العالميّ»، دفعة أخرى من الرواج مع الحرب على غزّة. والراهن أنّ اللغة كثيراً ما جهدت للّحاق بتسمية الانشطار الذي يشقّ عالمنا. فأوّلاً، قيل أنّنا شرق وغرب، وهو ما تعاقبت أجيال على قوله، في «الشرق» كما في «الغرب»، ولا تزال. وللاثنين كيلت صفات بعضها هجاء وبعضها مديح ممّا كانت تقرّر طبيعتَه طبيعةُ المتحدّث. وقد طرأت لاحقاً مصطلحات أخرى حاولت أن تكون أكثر دقّة أو تعييناً، لكنّها لم تغادر إلاّ قليلاً تلك الدلالات الماهويّة كما أسّستها التسمية الأولى.

ففي 1952 مثلاً، خرج المؤرّخ والديموغرافيّ الفرنسيّ ألفريد سوفي بمصطلح «عالم ثالث»، ليدل إلى الدول التي كانت تستقلّ عن الاستعمار الغربيّ من غير أن تكون شيوعيّة. وفعلاً ما لبثت أن ظهرت كتلة بلدان «الحياد الإيجابيّ وعدم الانحياز» التي اصطفّت في المنعطفات الأساسيّة في خانة «الشرق». أمّا «العالم الثاني»، فسُمّي «معسكراً اشتراكيّاً» بقدر ما سُمّي «معسكراً شرقيّاً»، وهذا بعدما كان مؤسّس الدولة السوفياتيّة قد ناشد «شعوب الشرق» ووضعها في مواجهة «الإمبرياليّة».

وشُطر الكون أيضاً إلى «عالم متخلّف» يواجه «عالماً متقدّماً»، فضُمّت بلدان غير شرقيّة جغرافيّاً إلى الأوّل، وهو الأمر نفسه تقريباً الذي قصدته تسمية «مركز وأطراف». إلاّ أنّ المعاني الأصليّة ظلّت إيّاها، تُستمَدّ تارةً من الاقتصاد وطوراً من الثقافة، ودائماً من الفعّاليّة والحيويّة. فإذا صحّ رمي شطر بالتخلّف أو التأخّر، بقي أنّ الشطر هذا هو نفسه بؤرة الثورة التي ستُشعل العالم، ومنها تنبثق كتلة النور التي تضيئه. وفي هذه الغضون كانت الأدبيّات الماركسيّة، والماويّة منها خصوصاً، قد سهّلت المهمّة المذكورة من خلال عمليّتين متلاحقتين: ذاك أنّ الطبقة العاملة في الغرب «خانت» مصلحتها ووعيها المفترض منذ تأييدها الحرب العالميّة الأولى، ثمّ كرّست خيانتها باندراجها، عبر أحزابها الاشتراكيّة الديمقراطيّة، في الحياة البرلمانيّة. أمّا في البلدان «التابعة» فيستحيل أن تنشأ طبقة بورجوازيّة تتعدّى العمالة للمتروبول الإمبرياليّ. وما ينتج عن عمليّتي الحدف هاتين حرمانُ طرف من العفاف البروليتاريّ، بما يثبّتُه في وضاعته الغربيّة، وتنزيه طرف عن الضلال البورجوازيّ، بما يؤصّله في جوهر شرقيّ ناصع.

وعلى منوال مشابه، تولّى الراحل هواري بومدين الدعوة إلى «نظام اقتصاديّ عالميّ جديد»، قبل أن يغادر دُنيانا ويترك بلده في قبضة حرب أهليّة فتّاكة، وهذا بعدما كان فرانس فانون قد طمأننا إلى أنّ العنف الجزائريّ وجد تصريفه في مواجهة الاستعمار الفرنسيّ، ولن يبقى شيء منه يتبادله للجزائريّون حين يستقلّون.

وتيمّناً بتيّارات إسلاميّة كثيرة سبقتها، جاءت الخمينيّة الإيرانيّة تزخّم الوجهة هذه. صحيح أنّها قالت: «لا شرقيّة ولا غربيّة»، لكنّها فعليّاً مجّدت التخلّف، الذي غالباً ما أُلصق بـ»الشرق»، بوصفه أصالة وخصوصيّة، مقابل هجاء ذاك التقدّم «المريض» الذي يزعمه «الغرب» لنفسه. وبعد أن ألصق إدوارد سعيد أسخيليوس بدانتي، وكدّس ماركس فوق برنارد لويس، بوصفهم جميعاً «مستشرقين غربيّين»، راحت قوافل متلاحقة من المثقّفين العرب تعلن بَرَمها بكلّ هذين التقدّم والتنوير اللذين يُثقلان على صدر منطقتنا! هكذا انهمكت حركة الترجمة لدينا بترجمة كلّ نأمة احتجاج غربيّ على الغرب، لا سيّما على ما هو حداثيّ ومستنير فيه.

وبانهيار المعسكر السوفياتيّ وزوال «العالم الثاني» وضمور ما تبقّى من وعي طبقيّ لصالح الهويّات الأصيلة، عُبّدت لتلك الخرافات أوتوسترادات جديدة.

أمّا «الجنوب العالميّ» فانتشى بولادة «بريكس» في 2009، قبل أن أن يلتحق بالتنافس التجاريّ وغير التجاريّ الأميركيّ – الصينيّ، ثمّ بالغزو الروسيّ لأوكرانيا، بوصفها علامات على طريق اندحار الغرب وزواله.

والصحيح في هذا كلّه أنّ بلداناً كثيرة تواجه تنامي الديون والفقر والجوع وضعف الحيلة حيال التغيّرات المناخيّة. لكنّ ربط مآسيها على نحو حصريّ بالغرب غير مقنع بتاتاً، خصوصاً مع تلك الشهيّة المفتوحة لإلحاق نقد السياسات الغربيّة بنقد تاريخ الغرب وثقافته وديمقراطيّته، تمهيداً لإعلان موت الغرب نفسه.

يحصل هذا كلّه من دون أيّ التفات إلى استحالة الخروج بتعريف نظريّ لـ»الجنوب العالميّ» يكون أشدّ تماسكاً من التعريفات السابقة للتسميات الأقدم عهداً. فهناك أنماط مختلفة من الأنظمة السياسيّة تنضوي في هذا «الجنوب»، فيما يلوح الجمع في خانة واحدة بين ماليزيا، حيث دخل الفرد يتجاوز الـ 28 ألف دولار، وزامبيا حيث يقلّ الدخل عن 4 دولارات، أشبه بالمهزلة. وهذا ناهيك عن عدم الاكتراث بظاهرات تعمل باتّجاهات شتّى لا تقبل التلخيص، كالعولمة، والهجرة وحركات اللجوء السكّانيّ، وموقع الصين الراهن، وحقيقة أنّ نقد «الشمال» لا يزال يصدر عن «الشمال» ويُمارَس فيه وحده.

إلاّ أنّ فضيحة فضائح المفهوم تبقى الاحتفال الصاخب بأنظمة الطغيان والفساد وبميليشيات التهريب والجريمة بوصفها عالَم الخير الواحد المتجانس الذي لا يمسّه التناقض. هكذا يغدو جائزاً لعالم كهذا أن يزهو بالخرافات الهويّاتيّة الأصيلة التي «قمعها» الشمال والتي تُناط بها قيادتنا إلى مستقبل من نور.

فالتناقض الوحيد الذي يدبّ على الأرض هو ذاك الذي يجمعنا بشمال لعين، نسير جميعاً لقتاله في ظلّ آية الله الخامنئيّ الجالس على كرسيّه ومنصّته المرتفعة، أو أحد الجالسين الورعاء تحت قدميه. أمّا «صراع الحضارات» فلم يتحدّث عنه إلاّ صموئيل هانتنغتون عليه اللعنة.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 عن مفهوم «الجنوب العالمي» الرائج اليوم  عن مفهوم «الجنوب العالمي» الرائج اليوم



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان
 العرب اليوم - غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 العرب اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 07:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 11:10 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرات إسرائيلية تستهدف مستشفى كمال عدوان 7 مرات في غزة

GMT 17:28 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية

GMT 19:28 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة كاميلا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الآداب

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 09:52 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تشوّق جمهورها لمسرحيتها الأولى في "موسم الرياض"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab