سلامة الطيران الراكب مفقود والواصل مولود

سلامة الطيران: الراكب مفقود والواصل مولود!

سلامة الطيران: الراكب مفقود والواصل مولود!

 العرب اليوم -

سلامة الطيران الراكب مفقود والواصل مولود

غسان الإمام

سافرت بالطائرة مع الدكتور ناظم القدسي من دمشق إلى القاهرة. ولم يكن الرئيس السوري الأسبق من الرؤساء ورجال الأعمال الذين يملكون الطائرات. فقد كان راكبا عاديا كأمثالي. كانت الرحلة هادئة بلا مطبات. وكانت لشركة الطيران السورية سمعة جيدة في صيانة طائراتها اللا... حديثة. ولم تكن الطائرة محشوة بالبراميل المتفجرة. فلم يكن الرئيس بشار قد ولد بعد.
وللتخفيف من قلق الركاب، فقد ملأ الدكتور القدسي، رحمه الله، الرحلة بدعاباته الخفيفة واللاذعة، تماما كما فعل عندما كان رئيسا لمجلس النواب. وقد عرفته هناك. ولمست خفة ظله في إدارة الجلسات التي لم تفتني جلسة واحدة منها في عمر آخر برلمان ديمقراطي (1954 - 1958). ولم تكن حياة القدسي هانئة. فقد قلبه العسكر مرتين. وحبسوه في المرتين. وعندما توفي في المنفى، رفضت صحف «البعث» الحاكم نشر ولو خبر مختصر عن الوفاة!
في حياتي طائرات أكثر من السيارات. فقد عدت في الثمانينات من مدينة العيون في الصحراء المغربية إلى الرباط، على متن طائرة الجنرال أحمد دليمي وزير الدفاع المغربي. وأجريت معه الحديث الصحافي الوحيد في حياته التي ستنتهي فجأة، بعد ذلك الحديث «الطائر» بشهور قليلة.
وكان برفقة الجنرال دليمي زميله الجنرال الصامت عبد العزيز الدالي رئيس أركان الجيش المغربي آنذاك. وأذكر أن الجنرال دليمي سألني: «لماذا لم تواصل الطيران مع الجنرال عَبْرَق؟» وكان عبرق الطويل. الضخم الجثة، قائدا للجبهة الصحراوية المشتعلة آنذاك.
لذت بالصمت. لم أجب. فقد كنت أعرف أن الجنرال دليمي يعرف أن مروحية الجنرال محمد عبرق قد سقطت به. وقضى ضباط كبار كانوا يرافقونه. وكنت الناجي يومها. فقد سبق أن لاحظت أن عبرق كان يزيح جانبا قائد المروحية، ليتولى هو قيادتها. فكانت الريح تتلاعب بها وبنا. تمارضت في اليوم المشؤوم. بقيت جاثما على الأرض في العيون. فكتبت لي النجاة. وكان عبرق الناجي الوحيد من الركاب. لكن الملك الحسن الثاني، رحمه الله، غضب غضبا شديدا، فأقاله من قيادة الجبهة.
خلال الوحدة المصرية / السورية رافقت وفدا صحافيا مصريا زائرا لدول أفريقيا الغربية التي كان رؤساؤها أصدقاء للراحل جمال عبد الناصر في حركة «عدم الانحياز». وكانت المفاجأة الكبيرة لنا أن كل الذين استقبلونا في مطارات المنطقة كانوا من الإخوة اللبنانيين. ونكاية بـ«حسن... حزب الله». فقد كانوا من التجار ورجال الأعمال الشيعة المتحمسين للعروبة ولعبد الناصر. ما زال أنجال وأحفاد هؤلاء يمسكون باقتصاد المنطقة. ويؤدون «الخوة» التي يفرضها الحزب عليهم، بعد إفلاس إيران ممولته وراعيته.
لكن طائرة الركاب الصغيرة التي أقلتنا من داكار عاصمة السنغال إلى طنجة المغربية، وقعت في طريق العودة أسيرة الغيوم الكثيفة. لا بوابة. لا نافذة. لا «كابين». كنا جالسين خلف قائد الطائرة المحنك وشيبه يملأ رأسه. كان يدير الطائرة. وكأنه يتحرك في متاهة.
ويبدو أن الضغط الجوي في الطائرة قد اختل. فعانينا من تشنج في الوجه والعضلات. فسكبت المضيفة كأسا من عصير البرتقال على «جاكيتة» إحسان عبد القدوس الأنيقة. لم يغضب الصحافي الكبير تقديرا منه لجمال المضيفة. نزلنا في مطار طنجة مرهقين. لجأنا إلى حديقة المطار في انتظار إصلاح الطائرة. لم يهتم إحسان بالجاكيتة «البرتقالية» المبللة. كان مهتما بأن يعرف مني ما إذا كانت هناك ثورة على عبد الناصر في سوريا.
زودتني الجميلة زيورخ بنظارة سوداء. وكأن المدينة الجميلة النظيفة كانت تعرف أني سأطير إلى شمس مصر. استقبلني لدهشتي رجل نوبي في مطار القاهرة لوحت وجهه الأشعة اللاهبة. أضحكني الرجل. قال لي إنه نجل الفريق النوبي عبد الله النجومي باشا، أحد كبار ضباط القصر الملكي في عهد فاروق.
كان الرجل النوبي سائق «تاكسي». أوصلني إلى الفندق. حمل حقيبتي إلى غرفتي. غافلني وأنا أعد له الأجرة مع «البقشيش»، ففتح الحقيبة. أطبق على النظارة السوداء. ثبتها على عينيه المجهدتين شاكرا. وقائلا: «دي برضه النظارة التي وصفها لي طبيب العيون».
كانت أحلى أيام العمر تلك السنوات التي قضيتها في بيروت، بلا بلاوي الطيران. فلي فيها أهل أقرباء. وزملاء. وأصدقاء. ثم جاءت الحرب الأهلية. اغتيل الشهيد كمال جنبلاط. وغادر الصديق الكبير صائب سلام (والد رئيس الحكومة الحالية تمام سلام) فيلته الشعبية الكبيرة إلى المنفى. وغادرت أنا بيروت موجع القلب إلى باريس، في رحلة عمل لمدة شهر واحد. خسرت تذكرة الإياب. فقد أصبحت عاصمة الحرية مكتبا. ومنفى لي منذ 39 عاما. وباتت فرنسا وطنا عزيزا عليّ. وقد يضمني يوما ثراها.
الطائرة كوكب فضائي من ألمنيوم. وبلاستيك. وخشب خفيف. ولحوم إنسانية طرية. ألغت الطائرة سائر المركبات الأخرى. حلت محل الدابة. والسفينة. والسيارة، فباتت مركبة العالم. وستطير قريبا إلى الكواكب الأخرى، بتذكرة ذهاب. فهل تهمك تذكرة الإياب؟!
تحسنت كثيرا سلامة الطيران المدني. أحدث. وأقوى الطائرات هي التي تمتلكها شركات الطيران الخليجية والأوروبية. وأسوأها هي الروسية. والإيرانية. هناك كارثة جوية واحدة محتملة، من أصل 4.5 مليون رحلة.
لا تظن أن إرهابيا سيرافقك في الطائرة. الخطر الأكبر يأتي من الكهرباء. هناك 150 ألف متر من الأسلاك المتشابكة القابلة للالتهاب خلف جدران الطائرة الداخلية، إذا ما تعطل العازل للتماس الكهربائي.
منذ أسابيع قليلة، ألزمت فرنسا ساكنيها بتركيب أجهزة إنذار في كل بيت. هناك أجهزة إنذار بالحريق والدخان (أربعة حوادث يوميا) في الطائرات. المشكلة أن فرق الإطفاء. والإسعاف. والأطباء، لا تستطيع الوصول إلى الطائرة السابحة في الفضاء. هناك أسطوانات إطفاء، شرط أن تطفئ المضيفة الجميلة أولا القلوب الملتهبة.
الخطر الثاني في الطائرة يكمن في «كابين» القيادة. تحسنت تقنية إقفال باب «الكابين»، منذ أن اقتحم الإرهابيون «كابينات» الطائرات الأميركية. وقادوها إلى نطح ناطحات السحاب في نيويورك. غادر «كابتن» الطائرة الألمانية المنكوبة «الكابين» لزيارة «التواليت». فأغلق مساعده الانتحاري المريض نفسيا وراءه الباب. وهبط بالطائرة إلى حتفه. ومعه الطيار «المزحوم» و144 سائحا.
مسافر زاده الخيال تجنب ركوب الطائرة الماليزية الضخمة إلى فيتنام في ربيع العام الماضي. فما الذي قادها إلى الاختفاء في عباب المحيط الهندي، وعلى متنها 239 راكبا؟ مسافر آخر سعيد الحظ رفض ركوب طائرة ماليزية أخرى كانت تطير فوق حرب أوكرانيا. فأسقطها صاروخ «القوميسار» بوتين (سام 11)، وعلى متنها 298 راكبا وملاحا. لم ينجُ منهم أحد.
ما زال الذين يموتون على الأرض أكثر من الركاب الذين يتساقطون من الفضاء. ما زالت السيارة. القطار. الجريمة. البيئة الملوثة. المدينة المزدحمة. الأمراض الفتاكة، أشد خطرا من الطائرة. وما زالت الحياة، يا بنيَّ، أقوى من الموت. هذه سنة الحياة. نحن نطير. نركب الخطر. الراكب مفقود. والواصل مولود. يبقى الذين لا يصلون هم المسافرون، في تقديرنا، إلى المجهول. غيابهم المفاجئ يترك فراغا هائلا يثير الحزن الصاعق في قلوب الآباء. والأمهات. والأطفال. والعشاق. ثم نكفكف الدموع. ونواصل ركوب الخطر.

arabstoday

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 03:56 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 03:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 03:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 03:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 03:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 03:37 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين وإسرائيل في وستمنستر

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سلامة الطيران الراكب مفقود والواصل مولود سلامة الطيران الراكب مفقود والواصل مولود



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab