بقلم - مأمون فندي
لماذا في منطقتنا تجد ما يزين العربي به نفسه وبيته من البراندز (الماركات العالمية)، أما أفكاره فهي من فرشة في العتبة؟ منطقة العتبة لغير المصريين هي منطقة يفترشها باعة الفالصو أو المنتجات الصينية الرديئة (ومع ذلك فهي منتجات عليها زخارف وأضواء مبهرة للعين غير المتدربة)، منتجات تناسب ليس فقط ذوق العامة وإنما أيضاً حدود ما في جيوبهم. يحيط بهذه البضاعة غالباً مشهد عشوائي من الزحام العبثي وتتخاطف الأيدي كل ما هو رخيص لا لشيء إنما لإبهار من لا يعرفون البراندز أو يتذوقونها.
ليس هناك مشكلة في أن يكون هناك سوق للعوام (سوق لها بريقها) أو كما يصفها أحد الأصدقاء بأنها «كهارب وترتر»، أي أضواء وبريق خاطف، ولكنها سوقية في ذوقها ورخيصة أيضاً، وهنا أستخدم كلمة رخيص بمعناها الواسع. المشكلة الحقيقية هي عندما تنجذب النخب المثقفة أو الأثرياء وحتى بعض النخب الحاكمة إلى عالم «الكهارب والترتر». بالطبع، هناك النخب القادرة على التمييز بين الفالصو والأصلي، ولكنها في هذه اللحظة التاريخية غير قادرة على رسم الخط الفاصل بينها وبين أهل الدرجة الثالثة.
ذات مرة دخلت بيتاً وكان مرصعاً ليس بالفاصو فقط، بل بما يمكن تسميته بأسوأ الجيد «worst of»، وهي عبارة إنجليزية تحدد الفرق بين من يقتني الفن لأن عينه عليمة وآخر يقتنيه، على رأي الرئيس الراحل حسني مبارك، من أجل «الفشخرة». أي حتى عندما يقتني بعض العرب ممن يبحثون عن التشبه السطحي بالأرستقراطية الغربية بعض اللوحات للفنانين العالميين فهم يقتنون أسوأ إنتاجهم، فهناك أسوأ ما رسمه مونيه أو حتى أسوأ ما رسمه فانديك أو فان غوخ، إلخ، وهذا يكشف عن عين سوقية في الاقتناء الفني، وهذا ما أعنيه أيضاً عند الحديث عن فرشة العتبة. فرشة العتبة في انحطاط الذوق هي ذاتها فرشة العتبة في وحشي الأفكار التي تحمله لنا غيوم السوشيال ميديا الداكنة، والتي ينفق على ترويجها علية القوم.
لا أكون مبالغاً في القول عندما أدعي أن معظم الأفكار التي تملأ الفضاء العربي في هذه الأيام هي أفكار مأخوذة مباشرة من فرشة العتبة، أو في أحسن الأحوال هي أسوأ المستورد. ومع ذلك، وفي غياب العين الناقدة يبدو الأسوأ المستورد أو الفالصو المحلي وكأنه الأصل أو أفضل ما يمكن الوصول إليه.
وساعد في تسويق فرشة العتبة هذه الأيام على أنها براندز أو من الصنف الراقي هي حالة الإلحاح المستمر من السوشيال ميديا وتلك الأدوات التي يحتفل بها الناس بجهلهم في العلن، كما يحتفلون فيها بانحطاط أذواقهم أيضاً. ومع هذا التكرار المستمر والإلحاح يظن المشاهد أن هذا هو الطبيعي وأن كل الناس يستهلكون الفالصو ذاته. إنها حالة التلوث البصري. وفي عالم الأفكار هو تلوث سمعي وتلوث الكتابة والصورة معا.
كل هذا رغم فداحته لا يخيفني كثيراً فيما يخص مستقبل منطقتنا، ولكن الخطير في الأمر هو ما يمكن تسميته بالاقتصاد السياسي للجهل والتخلف وتدني الذوق العام.
الجهل والتخلف في بلداننا صناعة تنفق عليها أموال أكثر مما ينفق على التعليم، جهل «متعوب عليه» وتصرف النخب كثيراً من أموالها على نشر التخلف واستمراره من خلال أقنية مختلفة تلفزيونية وإعلام رقمي وغيرهما. إن البحث في اقتصاديات الجهل والتجهيل في منطقتنا هي بداية الطريق للخروج من ذهنية «الكهارب والترتر» وجماعة من يظنون أنهم يحسنون صنعاً وهم يساهمون في أن تبقى «فرشة العتبة» الثقافية والفكرية دوماً على السطح ومتصدرة للشاشات الزرقاء.
كما دخلت بيوتاً من جماعة « »the worst of أو جماعة اقتناء الأسوأ، دخلت أيضاً بيوت من يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وكل صنيعهم يتلخص في استهلاك الجهل وترويجه فترى مجالسهم لا تختلف كثيراً عن «فرشة العتبة». المحزن في بعض الحالات من يعرفون أنهم يتعاطون الجهل من باب الترويح عن النفس، ولكن ما لا يدركونه أن العادة واستمرارية تشجيع الجهل واستهلاكه تحولهم مع الوقت إلى مدمنين لهذه الصنوف من الحديث.
لا أرى حلاً ماثلاً أمامي في الأفق لتفادي أزمة فرشة العتبة إلا إذا بدأنا بدراسة المستهلك والممول لهذه الفرشة، كما أنه لن ينصلح الحال إلا يوم تقرر النخب أن تفرز نفسها لترسم خطاً واضحاً بين نخبة زواج الجهل مع المال، ونخبة تزاوج الثقافة مع المال، وحتى هذه اللحظة لا أرى الخط الفاصل واضحاً. وبينما تحاصر الدولة مجتمع «فرشة العتبة» الأرضي، فإن الفرشة تترعرع في العالم الفضائي والافتراضي. الفرشة انحسرت كثيراً ولم تعد مكسبة على الأرض، خصوصاً في عالم الوباء، إلا أن الفرشة الإلكترونية أصبحت وباءً أشد خطورة وأكثر فتكاً.