بقلم: هدى الحسيني
لم يصدق جنرال بريطاني متقاعد أن مسؤولي بلاده والمسؤولين الأميركيين ذهلوا من اكتساح «طالبان» السريع لأفغانستان لو كانوا يقرأون تقارير استخباراتهم اليومية. يتشابه هذا مع تساؤلات الكثير من المراقبين السياسيين حول أحداث أفغانستان والسقوط السريع لخطوط الدفاع التي دفع الغرب ثمنها غالياً جداً بالمال والأرواح، عما إذا كان حقاً خفي على الدول الغربية وبالتحديد أميركا وبريطانيا مع كل الاستخبارات أن «طالبان» ستكتسح المدن وتجتاح الولايات الأفغانية والعاصمة كابل في أيام قليلة ومن دون مقاومة تذكر أو صد من الجيش الأفغاني الذي تم تدريبه وتسليحه على ما يزيد على عشرين سنة.
كثيرون لا يعتقدون أن هذا الانتصار لـ«طالبان» كان بسبب سوء تقدير أو هفوة من الأميركيين والبريطانيين، إذ لن يمر وقت طويل حتى تدخل إيران في مواجهة هي غير راغبة فيها بهذا الوقت، وستقوم بزج ودفع كل الفصائل الشيعية الموالية لصد هجمات «طالبان» فتشتعل حرب تعرف إيران بدايتها ولكن بالتأكيد لن تعرف نهايتها؛ حرب تشتت قواها وتعصف بكيانها، ويتم إضعافها أمام الدول صاحبة القرار.. حرب تقضي على أحلام الملالي باسترجاع إمبراطورية فارس.
إنها لعبة الأمم. في التاريخ القريب عام 1991 بعد تحرير الكويت ونحر الحرس الجمهوري أثناء انسحابه من الكويت، وكان الطريق إلى بغداد مفتوحاً بلا عائق أو مانع، كان القرار في واشنطن عدم حسم المعركة بشكل نهائي فبقي صدام حسين في الحكم لعشر سنوات تقريباً قبل حرب الخليج الثانية، واحتلال بغداد والقضاء على نظامه، وقد تكلم كولن باول وزير الخارجية الأميركي السابق عن هذا وقال بصريح العبارة إن الحرب أبطلت مفعول «تحييد صدام» عام 1991، ولم يكن هناك أي مصلحة وقتها من إزالته نهائياً باحتلال العراق. وإذا رجعنا أبعد من ذلك أثناء اجتياح الجيش السوفياتي لأفغانستان، فلم يتحرك الأميركيون عسكرياً بل تركوا الروس يدخلون المدن والولايات الأفغانيه وتم تجييش الإسلام الأصولي ومن بينهم أسامة بن لادن لشن حرب عصابات ضروس هزمت الجيش السوفياتي وأجبرته على الانسحاب، وقد كانت تلك الحرب من أحد الأسباب المهمة لانهيار الاتحاد السوفياتي. أما ما جرى أخيرا فقد أذهل بقية الدول المعنية وعلى رأسها إيران والهند وحتى الصين.
تظل أفغانستان تحت أي نظام جائزة جيوسياسية بسبب ثروتها المعدنية غير المستغلة وموقعها الاستراتيجي للغاية. على هذا النحو، تم استدراجها من قبل إيران والهند من خلال مشروعين؛ أحدهما كان ميناء تشابهار الهندي، الذي جمع إيران وأفغانستان معاً في محاولة لتزويد الدولة غير الساحلية بممر شحن إلى البحر المفتوح. وكان الأمل في أن البنية التحتية ستستفيد في نهاية المطاف من ممر النقل الهندي الأكثر توسعاً بين الشمال والجنوب، والذي يسعى لربط الهند بأوروبا. وكان هناك جهد آخر، وإن كان حديثاً، وهو توسيع مبادرة الحزام والطريق الصينية إلى أفغانستان، والذي كانت بكين قد بدأت فقط في استكشافه علناً في وقت سابق من هذا العام.
خلال اجتماع مع وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جيشانكار في وقت سابق من هذا الشهر أعلن الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، أن «إيران والهند يمكنهما لعب دور بناء ومفيد في ضمان الأمن في المنطقة، وخاصة أفغانستان». في المحادثات كان تركيزهما الرئيسي على أفغانستان، حيث جرت لاحقاً الأحداث بوتيرة سريعة. تزامنت رحلة جيشانكار هذا الشهر مع بداية حملة «طالبان» المذهلة عبر أفغانستان. وبالنظر إلى التطورات السريعة، ستضطر الآن كل دولة إلى إعادة التفكير في سياستها تجاه أفغانستان.
بالنسبة إلى الهند، الخيارات محدودة، في حين أنها قد تختار نهجاً سلبياً، في انتظار مزيد من الوضوح لأن الوضع لا يزال يتكشف. تفتقر نيودلهي إلى أي قدرة للتأثير من جانب واحد على الوضع على الأرض هناك، وتحتاج إلى شركاء في أفغانستان. التعاون مع الصين وباكستان لا يزال غير ناجح، في حين أن روسيا شريك تاريخي وثيق للهند، لكن موسكو تتطلع عموماً إلى باكستان للمساعدة في حماية مصالحها في أفغانستان. وهذا يجعل إيران أهم حليف للهند فيما يتعلق بأفغانستان. ترغب كل من الهند وإيران في أفغانستان مستقرة تديرها حكومة شاملة، حكومة لا تهيمن عليها «طالبان» ولا تكون تحت سيطرة باكستان. لدى كليهما سبب للقلق من عودة «طالبان» إلى السلطة في كابل. وتخشى الهند أن يؤدي مثل هذا السيناريو إلى تكرار ما حدث في التسعينات، عندما كانت أفغانستان، في ظل نظام «طالبان»، ملاذاً للجماعات الإرهابية المناهضة للهند والمدعومة من المؤسسة العسكرية الباكستانية.
من ناحية أخرى، كادت إيران تخوض حرباً ضد «طالبان» في عام 1998 بعدما ذبحوا دبلوماسيين إيرانيين إثر استيلائهم على مزار الشريف في شمال أفغانستان.
تخشى إيران الشيعية من أن تؤوي حركة «طالبان» السنية المتطرفة مجموعات أخرى متشابهة التفكير يمكن أن تستخدم أفغانستان كقاعدة لمهاجمتها. وتشعر طهران بالقلق على الأقلية الشيعية في أفغانستان واحتمال زيادة تجارة المخدرات عبر الحدود المليئة بالثغرات والتي يبلغ طولها 572 ميلاً بين البلدين.
بالنسبة إلى الهند، لطالما كانت الجغرافيا هي أكبر نقطة جذبتها إلى إيران، نظراً لافتقارها إلى الحدود مع أفغانستان. ومع منع باكستان من الوصول البري، نظرت الهند إلى إيران كنقطة دخول قابلة للتطبيق إلى أفغانستان وما وراءها إلى الأسواق والثروات المعدنية في آسيا الوسطى. للاستفادة من هذه الميزة، عملت نيودلهي وطهران معاً لتطوير وتحديث ميناء تشابهار في جنوب شرقي إيران.
كان أمل الهند منذ فترة طويلة في بيع تشابهار كنقطة وصول بحرية بديلة لأفغانستان، لكن التهديد بفرض عقوبات أميركية أعاق مشاركة الهند. وبينما تم إعفاء الميناء رسمياً من العقوبات، ظلت الهند حذرة نظراً لعداء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لإيران، فلم تدفع حتى الآن سوى مبلغ محدود من 500 مليون دولار مخصصة لتطوير الميناء بعدما كافحت لإشراك القطاع الخاص في المشروع.
إن صعود «طالبان» إلى السلطة يضع تشابهار الذي يعتبر منفذاً آمناً وقابلاً للحياة وبلا عوائق إلى البحر لبلدان آسيا الوسطى، علاوة على تمكين أفغانستان كبوابة إلى آسيا الوسطى، في «حالة تعليق» في الوقت الحالي.
قبل سقوط كابل، تمكنت «طالبان» من الاستيلاء على عدة معابر حدودية مع إيران. واضطرت إيران إلى إغلاق حدودها مع أفغانستان، مما قد يؤدي إلى قطع التجارة السنوية التي تبلغ قيمتها حوالي ملياري دولار...
على المدى الطويل، تشعر الهند بالقلق من أن الحكومة التي تهيمن عليها «طالبان» ستزيد من تجارة أفغانستان عبر موانئ كراتشي وغوادار الباكستانية بدلاً من تشابهار. وهذا يعني أنه بدلاً من تعزيز التكامل الإقليمي، قد تلجأ الهند إلى إيران من أجل استكشاف إمكانيات التعامل المشترك مع حركة «طالبان» العائدة. قد يبدو هذا حلاً، إلا أنه خلال التسعينات قامت نيودلهي وطهران، بالشراكة مع موسكو، بتقديم المساعدة السياسية والعسكرية والمالية للتحالف الشمالي، وهو مجموعة من القادة الأفغان الذين كانوا يحاربون حكومة «طالبان» في ذلك الوقت. لكن طهران أقامت في العقد الماضي وبعناية علاقات مع الحركة رغم بعض المخاوف، وشمل ذلك إمداد «طالبان» بالأسلحة لمواجهة الوجود الأميركي في المنطقة، ومؤخراً، المشاركة الدبلوماسية مع «طالبان» تحسباً لعودتهم إلى السلطة...
ويبدو أن نيودلهي نفسها قد تواصلت مع «طالبان» في الأشهر الأخيرة، مدركة أنها بحاجة إلى إشراك جميع الأطراف الأفغانية. لكن الهند تظل أيضاً الأكثر تردداً من بين جميع دول المنطقة، بشأن إشراك «طالبان»، ناهيك عن الاعتراف بحكومتهم.
من المرجح أن تبقي إيران الخيارات العسكرية مفتوحة ضد «طالبان»، في حال توترت العلاقات بينهما. قد تكون الهند أيضاً على استعداد لدعم مقاومة أفغانية محلية في المستقبل. ومع ذلك، على عكس الماضي، قد تكافح الهند وإيران لإيجاد أرضية مشتركة. ويكافح التحالف الشمالي السابق من أجل التوحد، حيث تم أسر العديد من أمراء الحرب في البلاد أو فروا، لذلك فقد تلجأ إيران إلى لواء «فاطميون» وهو من المقاتلين الشيعة الذين دربتهم، لمحاربة «طالبان»...
لكن يبدو أن الهند تفضل تحالفاً أوسع نطاقاً ضد «طالبان». ستكون نيودلهي قلقة من أن استخدام «فاطميون» ينطوي على مخاطر تأجيج العنف الطائفي في أفغانستان، مما قد يتسبب في مزيد من عدم الاستقرار. يمكن أن يكون للتحديات على الجبهة الأفغانية تأثير أوسع على العلاقات الثنائية بين الهند وإيران. ويرجع ذلك في الغالب إلى مقاربتهما المتناقضة تماماً مع الولايات المتحدة. أيضاً وجدت الهند صعوبة في الحفاظ على توازن في علاقاتها مع الخصمين، وغالباً ما قلصت من ارتباطها بإيران بسبب تهديد العقوبات الأميركية. ولتعقيد الأمور أكثر، وقّعت إيران مؤخراً اتفاقية استراتيجية مدتها 25 عاماً مع الصين، الخصم الاستراتيجي الرئيسي للهند، بينما عززت نيودلهي علاقاتها الاستراتيجية مع خصوم طهران الإقليميين، أي إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
إن التداعيات الجيوسياسية من سيطرة «طالبان» على أفغانستان ستكون كبيرة جداً في المنطقة، وستتأثر الكثير من الدول وأولها إيران.