بقلم : فاطمة ناعوت
هذى مدرستي/ وهذى فصولُ طفولتي/ وهذا فى عمقِ الزمان/ حنينُ الذكريات:/ ترانيمُ شدوناها فى كنيستنا/ وآياتٌ من الذكرِ الحكيمِ/ تلوناها فى رحاب مسجدي/ ذاك قربانٌ من سنابل قمح مصر/ خبزتْهُ أيادى الراهباتِ/ على دفءِ القلوبِ الطيبة/ تقاسمه أطفالٌ يعرفونَ الحبَّ/ وقطائفُ من ليالى رمضانَ البهيةِ/ رششناها بشهدِ المحبة/ وسكاكرِ العهدِ النقىِّ/ تخاطفتها أيادى الصغار./ هذى مدرستى الجميلةُ وقد غدتْ/ حصنًا من حصونِ العلمِ/ ترنو العيونُ إلى جواهر مجدها/ هذا العَلَم/ فوق سارية الفَخَار/ يحيا الوطن/ وتحيا مصرُ الماجدة./ هذى مدرستى/ هنا تعلّمتُ أن اللهَ/ يسكنُ فى قلوبِ الطيبين/ وأن الملائكةَ تغنّى/ إذ نُغنّى/ وأنها تبكى قَطرَ المطر/ حين يضربنا الحَزَن/ وتفردُ جناحيها لتحمى طفلاً يوشكُ أن يقع./ يا شجرةَ التوتِ العتيقة/ أشرقى/ أورقى/ كى نختلس/ من جودِ أغصانِك الخُضر/ وريقاتٍ ناضراتٍ/ نُطعِمُ بها ديدانَ الحرير./ هذى مدرستى الأنيقة/ وتلك حيطانُ فصولِها/ على مقاعدها نهلنا العلومَ/ ومن خلاقِ معلمينا/ تعلمنا القِيَم.
هذى كلماتُ قصيدتى التى ألقيتُها أمس الأول فى احتفال مدرستى الجميلة: «كلية البنات القبطية-CGC»، بعيد ميلادها العاشر بعد المائة، أمام مديرة المدرسة، ووفد رفيع المستوى من وزارة التربية والتعليم، والشخصيات العامة، بتشريف قداسة البابا المثقف «الأنبا تواضروس الثانى»، الذى ألقى كلمة بديعةً غاية الجمال والعمق؛ قال فيها إن الأدبيات تقول إن «الثروات والكنوز مخبأة فى باطن الأرض»، لكن الحقيقى أن «الثرواتِ والكنوزَ مخبآتٌ بين جدران الفصول». وتكلّم مطولا عن تميّز مصر وتفوّقها على جميع دول الأرض لحيازتها سبع حضارات مختلفة، وهذا ثراءٌ لا يضاهيه ثراء. ثم تكلّم عن عراقة مدرستى، فهى واحدةٌ من أعرق المدارس التى انتبهت إلى حتمية تعليم البنات فى تاريخ مصر. ١١٠ أعوام من التعليم الرفيع والتنشئة التربوية الراقية، تخرجت منها فتياتٌ غدون من رموز المجتمع المصرى، منهنّ: «د. فرخندة حسن»، «د. ليلى تكلا»، الفنانة «نبيلة عبيد»، الإعلامية «نجوى إبراهيم»، وأفخرُ أننى واحدة ممن تخرجن من هذه المدرسة البهية، التى تعلّمتُ فيها رفيع العلوم وجميل الخُلق.
غالبنى الدمعُ وأنا أرنو إلى الفصول التى تنقّلتُ بينها طفلةً صغيرة، وخفق قلبى وأنا أشهدُ عَلَمَ المدرسة الذى كنتُ أقفُ تحت ساريته أهتفُ: «تحيا جمهورية مصر العربية»، «اسلمى يا مصرُ إننى الفِدا». دُعيتُ كضيف شرفٍ إلى عشرات الحفلات فى المدارس داخل مصر وخارجها، لكن زيارة مدرستى القديمة بعد عقود من مغادرتها إلى كلية الهندسة، ثم إلى الحياة، كان لها مذاقُ الشجن العميق الذى يُجرى الدموعَ فى القلب والعينين، حنينًا وذكرى.
وكأنه بالأمس فقط. مازلتُ أذكرُ يومى الأول بمدرستى الجميلة التى نحتفل اليوم بإشعال ١١٠ شمعات فى كعكة ميلادها. المدرسة التى قضيتُ فيها أجمل أيام طفولتى، وتعلّمتُ فيها القيمَ الرفيعة التى كانت وسوف تظلُّ عماد حياتى. كلما مرَّ بخاطرى هذا اليوم البعيد، اختلطت فى أنفى روائحُ وألوانٌ: الديسكات الملونة بالروز والأزرق والأخضر، مع روائح الشجر الأخضر المغسول الذى يُطلُّ علينا من شباك الفصل، وثمار التوت على الشجرة العتيقة التى كنّا نتسلقها لكى نجمع أوراق التوت لنُطعم «دود القزّ» فى صناديق الورق المقوى، والكشك الأخضر الواسع الذى كان ملاذنا للجلوس والراحة بعد الركض واللعب فى الفسحة، مع رائحة رمل الحوش المُندّى بالمطر، والشاهد على شقاواتنا ومشاكساتنا مع الدادات الطيبات اللواتى كنّ، بكل حبٍّ، يستوعبن كوارثنا الصغيرة، حين نخرّب كل النظام الذى صنعنه فى الصباح الباكر، فيتحول مع نهاية اليوم إلى فوضى.
أتذكّرُ بكل حبٍّ: ميس «فريدة» ذات الوجه الهادئ الحزين التى تشبه «فاتن حمامة» فى وداعتها، ميس «عايدة» النشطة التى كانت ترفع شعرها للأعلى فى كعكة كورية وتتحرك فى خطوات سريعة وتشبه «سونغ هاى كيو»، ميس «سهام» التى تقصُّ شعرها «آلا جرسون» وتشبه «أودرى هيبورن»، ميس «سوزان» معلمة الحساب الجميلة التى تشبه «إليزابيث تيلور»، ميس «راشيل» معلّمة الإنجليزى، التى كانت تشبه الملكة «حتشبسوت» فى شموخها وشعرها الأسود الفاحم المقصوص «كاريه»، وطولها الفارع ووجهها الجامد الذى قلّما يبتسم، والقميص الأبيض المكوى، والجيب الأسود «الساك»، والشراب الڤوال البيج والحذاء الأسود إنجليزى الطراز ذى الكعب العريض القصير. كنتُ أراهُن جميعًا مثل ربّات الأساطير الإغريقية. فهن يحملن مشعلَ «العلم والمعرفة» وفى رؤوسهن مكتبات الدنيا وموسوعات التاريخ والعلوم. إذا ابتسمن فى وجوهنا، فنحن بخير وعلى الطريق القويم، وإن مرّت سحابةُ غضب على وجوههن فنحن بالتأكيد قد حِدنا عن الطريق القويم والويلُ لنا. وتأكد لى أن المعلمة «كائنٌ خرافى» خارجة من أساطير التاريخ بسبب هذه الواقعة الطريفة التى سوف أقصُّها عليكم فى مقالى يوم الخميس القادم بإذن الله. كل عام ومدرستى فى أعلى العُلا.