بقلم : فاطمة ناعوت
التاريخُ مرايا، لو أمعنَّا فى صفحتها النظرَ، لمحنا شيئًا من الحاضر، والمستقبل كذلك. فالتاريخُ يُعيدُ إنتاجَ أوجاعِه، إذا سمحنا لأخطاء الماضى أن تتنفس فى وجه الحاضر. وبراعمُ الفتن الأولى التى أطلَّت من تربة التاريخ فى لحظات بعينها، قد تغدو مع الزمان أشجارًا سوداءَ، بملامح وأسماء جديدة. تلك هى «اللحظات» القديمة التى يصحبنا الدكتور المستشار «محمد الدمرداش العقالى» لنقفَ أمام مراياها، لكى نشهد لحظة ميلاد الفتنة الأولى، وكيف تردّد صداها فى كل عصر، بعدما استقوت وتجبّرت وغلُظت ملامحُها، عبْر كتابه الساحر: «ألا فى الفتنةِ سقطوا» الصادر عن «عصير الكتب»، وعُقدت حوله ندوةٌ ثريةٌ فى «معرض القاهرة الدولى للكتاب»، بإدارة وتحليل الناقدة والأكاديمية الجميلة الدكتورة «عزة هيكل». يفتح لنا «العقالى» بعض نوافذ تاريخنا الإسلامى الغنىّ، ساكبًا الضوءَ غزيرًا فى بضعة سراديب معتمة، كَمُنت فيها أفاعى الفتن، لولاها، صفا لنا وجهُ الرسالة النبيلة دون قطرة دماء واحدة، تسيلُ على الثوب الأبيض. هذا الكتاب الممتع، الذى استُلَّ عنوانُه البليغ من الآية الكريمة: «ومنهم مَن يقول ائذَنْ لى ولا تفتنّى ألا فى الفتنة سقطوا»، يرسمُ خطًّا سرديًّا متصاعدًا يبدأ بالخارجى الأول: «حرقوص بن زهير السعدى» الذى نثر البذرة المسمومة فى أرض الرسالة بعد موقعة «حُنين»، وينتهى بالمأساة الكبرى: استشهاد الإمام «على بن أبى طالب»، شهيد المحراب، على يد «حرقوص جديد»، هو الآثم: «عبدالرحمن بن ملجم». وبين هاتين اللحظتين، يمتدّ مسارٌ تاريخىٌّ طويل من «الخوارج»، تحول إلى تيار جارف من الفجاجة يُعتم وجه الحياة، ويشوّه الرسالةَ النبيلة، باسم الدين.
الكتابة عن «الفتنة» ومسارات تحوّرها وتبدّل وجوهها عبر العصور، ليست بالأمر اليسير، خصوصًا بهذا الأسلوب السردى الحكائى الجميل الذى نهجه الكتاب. فالتاريخ أصداءٌ لصوت المنتصر، وحكايةٌ يعيد تأويلها الزمانُ وفق ظرفه. إلا أن الدكتور «محمد الدمرداش العقالى»، بقلمه الروائى الرفيع، ومنهجه التوثيقى الصارم، لم ينزلق إلى هوّة الانحياز، بل أعمل مبضعَ الجرّاح ليُشرِّح جسدَ التاريخ ويُمعن النظرَ فى مكامن الوجع، مستعيدًا تفاصيلَ المشاهد الدامية، التى رفع فيها الخوارجُ شعارهم الأثير: «لا حكم إلا لله»، بعدما أخرجوه عن سياقه الفضيل، وأحالوه إلى صكّ تكفير واستباحة؛ فصارت كلمةُ الحق سيفًا للباطل. بأسلوبه العذب، يتتبع «العقالى» ميلاد تيار الخوارج، وكيف نجحوا، بدهائهم الخطابى، أن يُلبسوا الباطلَ ثوبَ التقوى، ليخدعوا العوامَّ، ويمضى التاريخُ فى درب العنف؛ بدلًا من الرحمة المبتغاة.
مع صفحات الكتاب، نعايش أصداء حرب صِفّين، ونرى المصاحفَ وقد شُهرت على أسنّة الرماح، ليتشكّل المشهدُ الأكثر عجبًا فى تاريخ الإسلام، رغم ظاهر شاعريته. فبدلًا من أن يظلَّ القرآنُ سبيلًا إلى العدل مثلما ينبغى له، صار حيلة سياسية بيد مَن لا يُحسن تأويله. وخسر «الإمامُ علىّ» كرم الله وجهَه، ليس المعركة فحسب، بل خسر بعض رجاله الذين كانوا أقربَ إليه من ظِلِّه، بعدما ابتلعتهم حيرةُ الفتنة. فى قلب العاصفة، يقف «الإمامُ علىّ» المفكّر العظيم، محاولاً تغليبَ «الحكمة» على مشهد محتدم، أمام «معاوية» الذى استملحَ «الفوضى» بزعم «القصاص لدم عثمان». فاشتعلت الفتنُ وبدأت الصدوعُ والشقوقُ والانقساماتُ تُطلُّ برأسها الأشوه فى متن الجسد الصلب. يتناول الكتابُ مأساة «الإمام علىّ»، لا بوصفه مِشعلا نيّرًا وحسب، بل باعتبارها نموذجًا خالدًا للصراع الأبدى بين الرُّقىّ والانتهازية، وبين الحكمة والطمع. نتعرف عبر سطور الكتاب على «الإمام على» البطل والإنسان الذى كان عليه حسم لحظة مفصلية، وخوض حرب ضد أعداء الخارج وأعداء الداخل فى آنٍ واحد. وبهذا، يرسم الكتابُ صورة أكثر عمقًا لهذه الشخصية العظيمة، بعيدًا عن الإسقاطات الأيديولوجية.
هذا الكتابُ ليس مجرد عملٍ تأريخىّ مكتوب بمداد الأدب الرفيع، بل شهادةٌ تتجاوز زمنها، تطرح السؤال اللحوحَ: «هل انتهتِ الفتنةُ، أم مازلنا ندور فى رحاها، بأسماء جديدة وأقنعة مختلفة؟!» اليوم، لا يُشهر التكفيريون المصاحفَ على أسنّة الرماح، بل يُشهرون شعاراتٍ براقةً، ليقنعوا البسطاءَ بأنهم الناطقون باسم الدين. وكما تُوسِّل شعارُ: «لا حكمَ إلا لله» قديمًا لشرعنة القتل والدم، تُستخدم اليوم عباراتٌ جديدة، لتبرير الإقصاء والتكفير، وربما الدمار الشامل. هنا، يتحول الكتاب إلى مرآة «ميدوزا» المرعبة، تعكس الهولَ والنذير، إذا لم نتعلم من دروس التاريخ. فالمستشار «العقالى» لا يكتب للتاريخ، بل للحاضر والمستقبل؛ فى محاولة جادّة لوأد فتن جديدة، قد تكون أشد فتكًا من سابقاتها. «ألا فى الفتنة سقطوا» ليس كتابًا ماضويًّا، بل تحذيرٌ صارخ من أن الفتَن لا تموت، بل تتربّصُ بنا، تنتظر أن نكرر أخطاء مَن سبقونا. كتابٌ يعيد قراءة الماضى بروح الباحث عن الحقيقة؛ علَّنا نكتشف أن «الحكمة» وحدها قادرة على هزيمة الفتن، التى إذا اشتعلت، لن تُبقى لنا إلا الرماد. وأُكمل يوم الاثنين القادم بإذن الله رحلتى مع هذا الكتاب الغنىّ.