كسّارة البندق عصا «نادر عباسى»

كسّارة البندق.. عصا «نادر عباسى»

كسّارة البندق.. عصا «نادر عباسى»

 العرب اليوم -

كسّارة البندق عصا «نادر عباسى»

بقلم : فاطمة ناعوت

 

ننتظرُها فى نهاية كل عام مع أعياد الميلاد فى مثل هذه الأجواء الصقيعية التى لا يدفئها إلا الأملُ فى عام جديد طيّب لا ترهقه الأحزانُ والويلاتُ. ننتظرُ «كلارا»، الطفلة التى تكبرُ خارج الزمان، تحمل عروستها «كسارة البندق»، التى سرعان ما تغدو أميرًا وسيمًا يخترقُ أحلامَها ويخطفها إلى عالمه السحرى، حيث ممالك الحلوى ورقصات شيكولاتة الإسبان، وقهوة الشرق، وشاى الصين، وماتروشكا الروس، وحيث الموسيقى لا تُسمع بالأذنين، بل تُشكِّلُ من النغمات سحاباتٍ شفيفةً تدور حول جسدك فى دوامات كارمان، فى إعصارٍ رحيم من الجمال يخترق كل ذرّة فى جسدك حتى تذوبَ وتتحولَ أنت ذاتُك إلى نغمةٍ ترنو بعينيها إلى عصا المايسترو، الذى يقودُ هذا المحيطَ الهادرَ من العذوبة، فيشيرُ إليك بعصاه أن تطير فى الهواء، وتأخذ مكانَك فى شلال الموسيقى. حينما تتحولُ أنت إلى نغمة، ستتبدل حواسُّك، فالسمعُ يصيرُ إبصارًا، والإبصارُ يغدو استنشاقًا لعبير الزهور، واللمسُ يصبح تذوّقًا لحلاوة الشهد المُصفّى الذى يقطر من الزهور والفراشات التى ترقصُ الباليه.

موسيقى العظيم «تشايكوفسكى»، على أصابع «أوركسترا أوبرا القاهرة» بقيادة المايسترو «نادر عباسى»، ورقصات «فرقة باليه أوبرا القاهرة» بقيادة الجميلة «إرمينيا كامل» والمعهد العالى للباليه، وأكاديمية الفنون، وتصميم «إيفانوف فايونين»، و«عبدالمنعم كامل»، وديكور «سولودوفنيكوف» و«محمد الغرباوى»، وإضاءة «ياسر شعلان»، وتنسيق «محمد عبدالرازق»، وخشبة المسرح الكبير فى «دولة الأوبرا المصرية». تصوروا حين تحتشد كتائبُ السحر هذه لغزل ساعتين من الاغتسال الروحى!، وحين يُضافُ إلى ما سبق جمهورٌ مثقف ذوّاقة يعرف قيمة ما يُقدّم له من جمال أنيق، فيعرفُ متى يُنصتُ ومتى يُصفّق، ومتى يحبس أنفاسه حينما يعبرُ النغمُ بين ثنايا فساتين الباليرينات، ومتى يُغمض عينيه ويترك جسدَه ليتسامَى ويتحور إلى نغمة تحركها عصا المايسترو، هنا تكتمل أنشودةُ الجمال.

حينما بدأت رقصة الزهور، حيث تتحوّل الباليرينات إلى زهور ترقص، لاحظت أن صغيرى المتوحد «عمر» قد تقدّم فى مقعده إلى الأمام وكأنه يود أن يلغى المسافة بينه وبين خشبة المسرح، رغم أننا كنا فى الصف الثالث!. نظرتُ إلى عينيه وكان شاردًا يُنصتُ إلى الموسيقى ويتأمل الباليه وقد انعزل عن الواقع، فأدركتُ أنه فى لحظة الذوبان التى نتحوّل بعدها إلى نغمة. ولم يعد لى ابنى إلا بعد نهاية العرض المبهر. لكنه ظلَّ طوال الطريق نحو البيت يدندن بصوته الجميل لازمةً من «فالس الزهور»: «دو مى صول مى فا صول لا صول/ مى فا مى دو رى دو رى مى».

أكاد أرى «تشايكوفسكى» وهو يكتب موسيقى «كسارة البندق»، وهو يتخيل هذا المايسترو المصرى العظيم فى ليلة ساحرة، بعد ١٣٢ عامًا، يحمل عصاه السحرية ويقود الأوركسترا على النحو الأكمل والأتَمّ والأجمل، فيومئ «تشايكوفسكى» إيماءة الرضا، ويبتسم، ويُكمل التأليف.

دعونى أُحدثكم قليلًا عن المايسترو الاستثنائى «نادر عباسى». حينما يزور أى دولة أوروبية لكى يقود أوركسترا ذاك البلد، ترفعُ الحكومة «عَلَم مصر» فى الشوارع المحيطة بالفندق الذى ينال شرف استضافته طوال مدة إقامته. تعرفُ دُور الأوبرا فى جميع أنحاء العالم قدْره الرفيع مثلما نعرفُ نحن المصريين قدْره ونفخر به كما تفخر به مصرُ. قبل عشر سنوات، فى ذروة عنف الإرهاب الذى تزامن مع تنظيف مصر من دنس أعداء الجمال، وضع على صفحته صورة رجلين يعتمر كلٌّ منهما خوذة مصفحة ويحمل كلٌّ منهما بندقية يصوّبها إلى صدر أخيه. بعد برهة قليلة سوف تسقطُ ضحيةٌ بشرية مضرجة فى دمائها، بمجرد أن تضغط السبابة على زناد السلاح الأصَمّ. جوار الرجلين، يقف تمثالٌ رخامى لامرأة جميلة تضع فوق كتفها الأيسر آلة فيولين نحيلة، لكنها، على نحولها، تحمل الحياة والعذوبة لمجرّة من الحزانى. وتقبضُ الحسناءُ بيمناها على القوس، الذى إن مرّ وترُه على أوتار الفيولين، انطلق النغمُ الشجىُّ، الذى يجب أن يعلو صوتُه على صوت الرصاص، حتى نستحق الحياة. تحت الصورة كتب المايسترو ما يلى:

Stop the Violence. Music can Make a Better World أوقفوا العنف. بوسع الموسيقى أن تخلق عالمًا أفضل.

نعم، صدق المايسترو «نادر عباسى». الفنون الراقية تهذّب الروح وتكافح الجريمة، وتُقوّم الخارجين عن القانون. طبّق المايسترو نظريته حين ذهب مع أوركسترا مارسيليا الفيلهارمونى إلى أحد السجون الفرنسية، وعزفوا للنزلاء عددًا من المؤلفات الموسيقية العالمية، منها فالسات الدانوب الأزرق وكسارة البندق وبحيرة البجع وأوبرا كارمن وغيرها مما ينقّى الروح من شوائبها. وفى مقال قادم سوف أحكى لكم نهاية قصة السجناء مع الموسيقى.

شكرًا للباليرينا الجميلة، د. «لمياء زايد»، مديرة دار الأوبرا المصرية، على استضافة الجمال.

arabstoday

GMT 11:12 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

كما في العنوان

GMT 11:10 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

خيارات أخرى.. بعد لقاء ترامب - عبدالله الثاني

GMT 11:05 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

العودة للدولة ونهاية الميليشيات!

GMT 11:01 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

كويكب مخيف... وكوكب خائف

GMT 11:00 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

إيران: إما الحديث أو عدمه... هذا هو السؤال

GMT 10:59 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

لبنان وتجربة الثنائيات الإيرانية

GMT 10:58 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

الاستعداد لمحن إعمار غزة

GMT 10:56 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

تحديات ورهانات

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كسّارة البندق عصا «نادر عباسى» كسّارة البندق عصا «نادر عباسى»



أحلام تتألق بإطلالة لامعة فخمة في عيد ميلادها

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:15 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

غزة.. التي أصبحت محط أنظار العالم فجأة!

GMT 06:22 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

استعادة الدولة بتفكيك «دولة الفساد العميقة»!

GMT 19:00 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

لبنان يحذر مواطنيه من عاصفة "آدم"

GMT 06:23 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

السودان... تعثّر مخطط الحكومة «الموازية»

GMT 01:14 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

الإفراج عن صحفي تونسي بارز من معارضي سعيد

GMT 01:46 2025 الجمعة ,21 شباط / فبراير

انفجارات عديدة تهز العاصمة الأوكرانية كييف
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab