بقلم : فؤاد مطر
يحزن اللبناني على حاله كثير الحزن هذه الأيام، التي تنفِّذ فيها «إسرائيل نتنياهو» استباحات من كل نوع بسمائه وأرضه، بعد استباحة ثورية ذات نكهة إيرانية لقرار دولته غير مكتملة الأصول الدستورية، وإلى درجة أن هذا الوطن الذي سبق أن انتشلته السعودية (اتفاق الطائف 18 سبتمبر/أيلول 1989) من جحيم اقتتال بني طوائفه، كما انتشال يوسف من الجب، سيذهب مثلاً في الأوطان التي يتشارك معظم أطيافها الحزبية؛ وكل طيف على نحو ما يكلّف به أو يوحى إليه، في زعزعة هذا الوطن الذي تمعن «إسرائيل نتنياهو»، وكما «إسرائيل شارون»، قبل عقديْن من الزمن تدميراً لبعض مناطقه؛ بل في معظم مناطقه.
وموجب استحضار اتفاق الطائف علاجاً للوطن المبتلى بالعدوان بعد الاستباحيْن أكثر من ضروري، حيث إن وثيقة اتفاق الطائف لم يقتصر بعض مضمونها على استبدال التسالم المتدرج بالاقتتال إلى حيث يبلغ مدى الانصهار الوطني، كما حدث عام 1943، وإنما كانت بمثابة خريطة طريق للبنان الذي ينعم بالاستقرار، كما سائر أوطان كثيرة، إنما من دون أن تشرِّع طائفة أو أكثر من طوائفه الكثيرة الأبواب أمام أصحاب مشروعات لا تعطي التوافق أهمية، ولا تراعي التركيبة الراسخة لتعدد المناحي الطوائفية فيه.
ولقد كان من شأن استيعاب كنه التركيبة المجتمعية والطوائفية في لبنان أن يقتصر طيف خيار المواجهة نصرة للشعب الفلسطيني في غزة، على مساندة معنوية إعلامية واستضافات علاجية وتوفير أدوية، وبذلك يؤخذ الموقف اللبناني من جانب المجتمع الدولي في الحسبان، وبالتالي لا يصار هذا التدمير للقرى والبلدات الجنوبية كما للضاحية التي باتت عاصمة «لبنان حزب الله»، وهي تسمية شجعت التوجهات التي خرجت التكهنات في شأنها إلى العلن، بل ذهب البعض إلى تفضيل خيارات تحويل الوطن الواحد إلى لبنانات عدة، كل يلوذ في لبنانه الذي لا يعنيه أمر المواجهات بالسلاح.
هذا الذي جرى للبنان وتنوعت محطات التدمير والإبادة من جانب إسرائيل لبعض مناطق بلداته ولمناطق في عاصمته، كاد يحدث مثيله بتونس في مثل هذه الأيام الأوكتوبرية من عام 1985، لولا أن البورقيبية ومعها حكومتها المزالية (الرئيس محمد مزالي) كانتا على درجة من الحصافة لاستدراك ما من المصلحة الوطنية استدراكه.
ومذاك لم تكن هنالك إيران ذات الأذرع. كان لبنان في أحسن حال كما كانت «حماس» في غزة تحبو. وكانت تونس هي الأُخرى في منأى عن ظاهرة الأذرع التي أصابت لبنان وسوريا والعراق وغزة، واليمن الذي تبعثر. كانت هنالك «فتح» يقودها ياسر عرفات محاطاً بمجموعة من رفاق التأسيس، ولأن السند الناصري كان في عز شأنه، فإن الرئيس عبد الناصر مارس مع لبنان ذي الشأنيْن الرئاسي (شارل حلو) والعسكري (قائد الجيش إميل البستاني) ما ليس في الحسبان، حيث إنه كان بمثابة سابقة توقيع اتفاق بين لبنان والتنظيم الفلسطيني الأقوى (حركة فتح)، وكانت الوثيقة المذيلة بتوقيع قائد الجيش اللبناني وتوقيع ياسر عرفات والمسماة «اتفاق القاهرة»، وتجيز مرابطة قوات فلسطينية في مناطق من جنوب لبنان، بمثابة الشرارة التي تطورت مع الوقت إلى الحرب اللبنانية، فإلى حرب إسرائيل آرييل شارون على لبنان، وكما هي حرب إسرائيل بنيامين نتنياهو المستمرة على لبنان، بدءاً باغتيالات رموز في المقاومة بنوعيْها... مقاومة «حماس» المستضاف بعض قيادييها في «لبنان حزب الله»، كما استضافة ياسر عرفات ومعظم القياديين من حركة «فتح»، وحلفائها بتأشيرة رئاسية ممهورة بتوقيع قائد جيش لبنان، إلى جانب توقيع ياسر عرفات. ومثل هذه الصيغة لم يتم اعتمادها من جانب إيران، وإن كان التوقيع تم ضمناً من خلال تحالف «حزب الله» مع رئيس الجمهورية ميشال عون.
هذه التجاوزات للأصول الدستورية أفرغت لبنان من صلابة موقفه وهزت كيانه، وجعلت التصويب عليه يبدو كما لو أنه فريسة للصائدة المستبيحة أوطان الآخرين وسياداتهم بدعم مبرمج ورضا غير مسبوقة فعالياته من جانب الإدارات الأميركية والحكومات الأطلسية. ومن بعض هذه الفعاليات والاستباحات ما حدث لدولة تونس - في مثل هذه الأيام قبل 39 سنة - التي حطت في ربوعها قوافل «فتح» بقائدها ياسر عرفات ومقاتلين في جنوب لبنان تصرفوا بموجب ذلك الاتفاق الذي أشرنا إليه، الأمر الذي أوجب تسفيرهم إلى تونس الدولة التي ارتضت الاستضافة مع حسبان المفاجآت من جانب إسرائيل.
ولهذه الحالة من تشابه الحاضر في لبنان من جانب إسرائيل، مع الذي حدث قبل ذلك في تونس، أي ما أشبه اليوم اللبناني بالبارحة التونسية، بقية هوامش تعتمد على الذاكرة والمعايشة. شفى الله لبنان من رهانات الخيارات المتعجلة.