في الساعة الثالثة وثماني عشرة دقيقة من فجر يوم اثنين من عام 2015، رحل لي كوان يو، الأب المؤسِّس لسنغافورة وأول رئيس للوزراء بعد استقلالها وحصولها على الحكم الذاتي من بريطانيا في عام 1959، عن عمر 91 عاماً، ليعلن بذلك ختام حياة واحد من أشهر زعماء القارة الآسيوية والعالم في القرن العشرين.
وتمكن لي كوان ذو الجذور الصينية والمولود عام 1923 من تحويل سنغافورة من جزيرة مليئة بالمستنقعات والبعوض إلى مركز مالي عالمي واستثماري تكتظ فيه ناطحات السحب، وقفز فيه دخل الفرد 3 مرات، ويعد من بين أقل حكومات العالم فساداً.
واشتهرت مقولة لي كوان عن حلمه بتحويله «سنغافورة إلى واحة من العالم الأول في منطقة من العالم الثالث»، وهذا ما تحقق على أرض الواقع وألهم عديداً من الدول بما فيها الصين، التي نَمَت وتعملقت بعد اتِّباعها نهجه الاقتصادي المعتمد على الرأسمالية المقيَّدة بالتدخل الحكومي لضبطها وتنظيمها.
ولكنَّ طريق لي كوان يو لصناعة نجاح سنغافورة لم يكن ممهَّداً. وكانت مصادر الدخل الشحيحة وعدم التجانس السكاني الذي يجمع خليطاً من الملاويين والصينيين والهنود، وتنوع الثقافات واللغات والأديان داخل البلد الصغير، بمثابة عوائق جسيمة أدرك القائد السنغافوري صعوبة اجتيازها منذ اليوم الأول لاستقلالها ومن ثم انفصالها عن ماليزيا عام 1965 التي يسميها «لحظة الكرب». ويقول لي كوان عن هذه الظروف الصعبة: «سنغافورة أمة لم يكن يُفترض أن تولَد. التاريخ وقت طويل، وقد قمت بمغامرتي».
ويُعرف لي كوان بعقليته العملية وشخصيته القوية الواقعية ويقول البعض إنه يجمع بين الخليط الساحر من الجاذبية والخوف. صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية كتبت في يوم رحيله أن سمات شخصيته انعكست على أمة بالكامل، أمة عملية، وغير عاطفية، وطموحة تتطلع للأمام. ولكنَّ كوان جرَّب الفقر وخشنت عواطفه ومشاعره في الواقع الذي لا يرحم. ووصف نفسه في واحد من كتبه بـ«مقاتل الشارع»، وقال: «إذا استطعت أن تنال مني وتؤذيني فافعل. ولكن لا يمكن أن تحكم مجتمعاً صينياً إلا بهذه الطريقة».
هذه الروح المقاتلة والرغبة الفولاذية في النجاح التي جعلته يحصل على مرتبة الشرف في دراسة القانون ليعود بعدها ويبني بلاده من الصفر وينتشلها، متجاوزة حجمها الصغير وعوائق الطبيعة، وتعود تلك الروح المقاتلة في نشأتها إلى أيام الاحتلال الياباني لبلاده الذي ترك ندوباً في روحه ودروساً ليتعلم منها طوال حياته. هذا الاحتلال المُهين الذي كاد يفقد حياته خلاله، جعله يرى كيف تركع الشعوب الضعيفة وكيف يُذَل أهلها الفقراء ويخضعون لأنهم جائعون. وقال كوان عن هذه التجربة المريرة: «رأيت في الاحتلال الياباني لسنغافورة كيف يخضع الناس لأنهم يريدون الحياة والطعام. تعلمت بعد ذلك ماذا تعني القوة».
ظروف نشأته أسهمت في تشكيل شخصيته الكارهة للعواطف المنفعلة الهائجة والمحبة للانضباط واتخاذ القرارات بهدوء بعد أن تبرد المشاعر الغاضبة. في حواره مع الصحافي الأميركي توم بليت، الذي نشره في كتابه «حوار مع لي كوان يو»، يصف الزعيم السنغافوري والده بالشخص الذي لم يكن قادراً على ضبط أعصابه لذا كان يهتاج غضباً على أتفه الأسباب ويضرب الولد الصغير، الأمر الذي ترك جروحاً غائرة داخل أمه الحزينة الحكيمة الهادئة التي آمن من خلالها بقوة المرأة السنغافورية وقدرتها الفاعلة على المشاركة في صنع مستقبل سنغافورة.
وتعرَّض لي كوان يو لانتقادات مستمرة من الصحافة الغربية التي تتأرجح بين الإعجاب بعبقريته وقدرته على النجاح، وبين ما تصفه بالنظام التسلطي الناعم الذي يؤمن بالحكومة المركزية وانخفاض مستوى حرية التعبير الشعبي والصحافي. ورد لي كوان يو على هذه الانتقادات بإجابة واحدة: «لا يهم ما يقوله الآخرون عني، المهم ما يقوله السنغافوريون. يمكن أن تسميني براغماتياً نفعياً. أنا مهتم بماذا يعمل ويتحقق النجاح».
ويفتخر لي كوان يو بأن بلاده خالية من الآيديولوجيا مثل خلو المشروبات الغازية من السكر. «آيديولوجيا سنغافورة الوحيدة»، كما ذكر في حوار مع صحيفة «نيويورك تايمز»، هي «الآلية الناجعة التي تعمل. سنجربها ونرى، إذا عملت سيكون ذلك جيداً وسنستمر، وإذا لم تعمل، سنتخلص منها، ونجرّب غيرها».
بعد حكم لي سنغافورة لأكثر من ثلاثة عقود رئيساً للوزراء من خلال حزب العمل الشعبي الذي اكتسح الحياة السياسية في البلاد لعقود وبعد أن تنازل عن الحكم طوعاً في عام 1990، أصبح «الوزير الأعلى» التي تنعكس ظلاله على ناطحاته وبحيراته. الصحافيون يذهبون إلى سنغافورة لمقابلته أولاً قبل حتى أن يلتقوا رؤساء الوزراء الذين تتلاشى أهميتهم إلى جانبه على الرغم من أنه يعمل من بيته. سأله أحد الصحافيين منتقداً هذه القبضة الحديدية رغم الغياب، فأجابه بشبه اعتراف: «لا يمكن أن نغامر ونسمح لما حققناه بالتراجع».
روَّج لي كوان مراراً لما سماها «القيم الآسيوية»، وهي حملة أخلاقية وسلوكية معارضة للقيم الغربية التي تؤمن بحرية الفرد في الحياة والتعبير على حساب قيم المجتمع. القيم الآسيوية تقلل من أهمية الحرية الفردية إذا كانت على حساب خير المجتمع الذي سيشمل الجميع، كما يقول. كما أنه أحد المخلصين لقيم تطوير الذات التي تحرِّض السنغافوريين على الابتسام، وتعلم اللغة الإنجليزية، وتجنب رمي القمامة من الشرفات، والبصق في الشارع، والتخلص من «العلكة» بعد مضغها. شوارع سنغافورة لامعة وشديدة النظافة بسبب العقوبات المالية على من يبصق لعابه أو علكته. ويسخر بعض المعلقين من هذه القوانين التي يصفونها بالغرابة. وردَّ لي كوان على هذه الضحكات الساخرة بقوله: «دعهم يضحكوا. لو لم نقم بهذه الجهود لأصبحت شوارعنا قذرة وشخصياتنا وقحة».
والآن بعد سنوات من رحيل أيقونة سنغافورة وأبيها المؤسس، آخر ما يفكر السنغافوريون وملايين المعجبين بتجربته هو الضحك على ما قاله أو فعله.
لماذا أكتب عنه اليوم؟ لأن تجربته تعلمنا دروساً مهمة خصوصاً في منطقتنا، وهي أهمية القائد الواقعي العملي المهتم بمصالح شعبه. القائد الذي يؤمن بالإصلاح الحقيقي والتنمية الاقتصادية والحرب على الفساد لأنها هي السبيل الأمثل للاستقرار والازدهار. القائد الذي يفهم طبيعة الشعب ويتعامل معه على هذا الأساس، وكما قال كوان فإنه لا يهتم بما يقوله عنه الآخرون لأنهم لم يفهموا تركيبة مجتمعه. فمجتمعه خليط ديني وعرقي، ويجب فرض قوانين تضبط الأمن فيه وتدعم تعليماً يدعم التطور الثقافي والعلمي لأنه لا يمكن لمجتمع أن يمضي إلى الأمام بثقافة متأخرة وتعليم متراجع ومذاهب وأعراق متناحرة... تجربة لي كوان تُعلمنا الأخذ من المجتمعات المتطورة والانفتاح عليها وأخذ ما يناسبنا منها لأن لكل مجتمع حركة إيقاع مختلفة ولا يمكن فرض نموذج سياسي واقتصادي على الجميع ولكن من الحكمة التعامل بواقعية. تجربة لي كوان يو تستحق التأمل، ومن كان يهاجمه سابقاً أصبح يبجّله الآن، ومن الأكيد أنه لو عاد إلى الحياة الآن سيقول ما كان يقوله سابقاً: «لا يهم المديح أو النقد. المهم ما يقوله السنغافوريون عني. أنا مقاتل من الشارع وبراغماتي ونفعي وآيديولوجيتي الوحيدة هي آيديولوجية النجاح».