بقلم:ممدوح المهيني
لماذا يردد البعض الخطابات الثورية في الخليج؟ وما الهدف من تجييش الناس (مقيمين ومواطنين) في دول الخليج لترديد الشعارات الثورية؟
من حق أي شخص أن يقول ما يريد، ولكن من المهم أيضاً أن نفهم هذه الظاهرة وننتقدها. نفهم لماذا تستخدم، دوافعها وأضرارها، كما أراها.
دول الخليج هي دليل على الأرض على عكس كل ما يقوله الثوريون. هي الجوهرة الباقية في متجر محطم. نجاح دول الخليج يعود إلى أنها استمعت إلى نصائح الثوريين وتجاهلتها تماماً. استبعدت الخطاب الثوري العاطفي واعتمدت الخطاب الواقعي العقلاني حتى في أصعب الظروف وأحلك الأزمات وفي ذروة التحريض عليها وابتزازها (العميلة للغرب... المتواطئة معه) بهدف تغيير نهجها السياسي.
للخطاب الثوري محركاته. اختارت الحكومات الثورية الهجوم على الغرب والاستعمار والإمبريالية إلى آخر القائمة لهدفين: الأول، تعزيز شرعيتها داخلياً لأن هذا الخطاب الشعبوي يحرك الغرائز ويخدع الناس. خلْق عدو خارجي خطير يوحد الجموع الغاضبة نحو المعركة الكبرى وأي معارض وصاحب رأي مختلف هو مجرد خائن وعميل. الهدف الآخر: تحويل الأنظار عن المشاكل الداخلية وتصديرها للخارج؛ لهذا حل المشاكل الداخلية مؤجل حتى تنتهي المشاكل والأزمات الخارجية التي لا تنتهي أبداً. وقد رأينا حكومات عربية وأجنبية استخدمت هذا الأسلوب لأنه مثل المخدرات الكلامية. فعال ويحرك الجماهير العاطفية والمندفعة.
استخدام الدين أيضاً ورقة رابحة في لعبة التجييش والتحريض والتثوير. حكومات استخدمت المتطرفين حتى يسبغوا عليها الشرعية ويقدموها بدور المدافع عن الإسلام والمقدسات. ومهما كان الوضع الداخلي متردياً، يكفي أن يُرفع شعار الدين حتى ينتهي الحوار وترفع الجلسة.
غالبية الدول التي استخدمت هذه الشعارات الثورية القومية والدينية لم تزدهر وبعضها انهار تماماً، والأمثلة حولنا كثيرة من «طالبان» إلى إيران، إلى عراق صدام، إلى ليبيا القذافي، إلى سودان البشير، إلى مصر عبد الناصر.
الدول الخليجية لم تستخدم هذا الخطاب الثوري وهي الآن قِبلة للباحثين عن النجاح والهاربين من الدول التي عبثت بها الخطابات الثورية. لم تخلق عدواً خارجياً تسعى للقضاء عليه، ولم تصدّر مشاكلها الداخلية. معركتها الكبرى هي التنمية. لماذا حدث ذلك؟ لأنها ببساطة ليست في حاجة إليه. أولاً، دول الخليج تكتسب شرعيتها من ذاتها، حيث يلتف المجتمع على قيادتها لأسباب تاريخيّة واجتماعية ومن نجاحها الاقتصادي (كما نرى المشاريع الكبيرة التي تنجزها). وهي ليست في حاجة إلى تجييش شعوبها لكي تكتسب شرعية مزيفة. ولهذا؛ لا نرى قادتها يلقون الخطب العصماء عن الإمبريالية مع أنها عملية سهلة. ثانياً، دول الخليج تمتلك علاقات متينة مع الغرب سياسياً واقتصادياً، ورغم أن الثوريين استخدموا هذه العلاقة للهجوم عليها وابتزازها ويدعون مراراً إلى قطعها، فإنها لم تتغير، بل تطورت وتعمقت أكثر. ثالثاً، دول الخليج مندمجة مع الاقتصاد العالمي ولاعب كبير فيه (لنتذكر الدور الكبير الذي تلعبه السعودية في أسواق النفط والاستثمارات العالمية)؛ ولهذا هي جزء من هذا العالم المزدهر المنفتح ولا يمكن أن تكون ضده. لا أحد يطلق النار على قدميه.
لم تستخدم دول الخليج الخطاب المتطرف لتعزيز مكانتها. بل العكس هي تقوم الآن بمهمة كبيرة، وهي الدفع بالخطاب المتسامح الذي يمثل الجوهر الحقيقي للدين والأصلح للبشرية من خطاب العنف والتحريض الذي ساد في المنطقة لوقت طويل. وقد حاول المتطرفون أن يخلقوا من كل أزمة لا علاقة لدول الخليج بها (مثلما يحدث في غزة حالياً) ذريعة للهجوم عليها بهدف إسقاطها، بعد أن فشلت في دفعها لتغيير نهجها العقلاني، وهو الانفتاح على العالم والاندماج فيه.
ما يفعله الثوريون في الخليج هو الشيء ذاته الذي يفعله الثوريون في الخارج. تعزيز ثقافة التذمر ولوم الآخرين وتخوينهم. نشر الفكر المؤامراتي والطروحات المنبرية. تدمير الفكر العقلاني الواقعي واتهام كل من يتبنى هذا الفكر بالمروق. خلق حالة من التجييش الشعبي والتحريض المضرة داخلياً لأنها ستخلق أناساً غاضبين وناقمين، وهذا يصبّ في النهاية في خدمة الخطاب الثوري. شحن خزان الكراهية من جديد عبر استخدام قضايا نبيلة قريبة من قلوب الناس، ولكن تستغل بطريقة لا تخدم أصحاب القضية نفسها. دول الخليج هي الناجحة والمزدهرة وترتبط بعلاقات قوية ومهمة مع القوى الكبرى غرباً وشرقاً واحتضنت الجميع من كل مكان. هي البقعة المضيئة التي يحقق فيها الأفراد، مهما كانت جنسياتهم وأديانهم، أحلامهم. وهي الملاذ الأخير لمنطقة مضطربة وفاشلة، ولكنّ الثوريين لا يعجبهم هذا ويريدون الترويج لخطابهم الذي يريدون الدفع به داخل الخليج بأي صورة ممكنة. الخليج مندمج مع العالم المزدهر وجزء أصيل منه ويستخدم أدواته العقلانية الواقعية لحل الأزمات، وهو أمل الكثير من العرب بعد أن مزّق الخطاب الثوري دولهم المزدهرة في الماضي، قبل أن يتولى قادة الميليشيات شؤونهم. ومن الصحيح أن ندعم هذا الخطاب العقلاني الواقعي ونقف في صفه ولا نحرّض عليه بطرق ملتوية كما يفعل الثوريون في الداخل أصحاب الملابس الأنيقة والابتسامات البراقة والمخادعة.