مدخل إلى التثوير

مدخل إلى التثوير!

مدخل إلى التثوير!

 العرب اليوم -

مدخل إلى التثوير

بقلم - ممدوح المهيني

يشتكي المؤرخ المعروف، نيل فيرغسون، من سيطرة الأفكار اليسارية على الجامعات الأميركية، خصوصاً كليات التاريخ وعلوم السياسة والاجتماع. في حوار أُجرِي أخيراً معه قال متحسراً: «كم كنتُ ساذجاً. اعتقدتُ أن الموهبة والمثابرة والكفاءة هي معيار التقدم في العمل الأكاديمي، وفي كل مكان آخر، ولكني كنتُ مخطئاً. اكتشفتُ متأخراً أن الآيديولوجيا الفكرية هي العامل الأهم». مجموعة اليسار الفكري، كما يقول، تساند بعضها وتقصي أصحاب الأفكار المختلفة حتى يتلاشى صوتُهم وتأثيرُهم. فمع خروج كل أكاديمي محافظ من الكلية يتم استبدالُ مؤرخ ذي نزعة يسارية به، وبهذا يزيد نفوذ الآيديولوجيا اليسارية.

وهكذا يمكن أن تسيطر الرؤية اليسارية على عقول الطلاب بشكل حاسم حتى في أعرق الجامعات. ويقول فيرغسون إنه حضر مرة بديلاً لأحد الأساتذة في جامعة بيركلي، وأشار إلى الأسباب الدينية خلف تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول). شعر على الفور بتململ وعدم ارتياح الطلاب من هذه الحقيقة، مفضلين عليها أسباباً أخرى حُقِنت برأسهم، بينها أنها كانت ردةَ فعلٍ على «الإمبريالية» الأميركية.

ولهذا يقول مؤخراً بخيانة الأكاديميين في الجامعات بسبب انحيازاتهم الحزبية والسياسية الواضحة، وأصبحوا عقائديين هدفهم أن يحقنوا الطلاب بأفكارهم ويخلقوا منهم نسخاً مصغرة عنهم بدل أن يعلموهم طرق التفكير النقدي والعلمي من دون أن يفرضوا عليهم أجنداتهم. ولكن صعود اليسار وتحول الجامعات الأميركية بشكل مزداد إلى بؤر لها سينتج بلا شك نتائج مضرة. ولا يتعلق فقط الأمر باليسار، ولكن أيضاً في اليمين، حيث ازدهرت الأطروحات اليمينية بالجامعات الألمانية في الثلاثينات من القرن الماضي، وسيطرت على الجامعات العريقة وأقصت كل الأطروحات الأخرى، وأسهمت بصعود اليمين المتطرف الذي انتهى بصعود النازية وزعيمها. طهرت الجامعات من الأصوات المختلفة وحل مكانها، لأسباب آيديولوجية ومصلحية، أصوات اليمين العنصري البغيض.

وبحسب تجربة شخصية، فقد شهدتُ كيف تغمر أطروحات اليسار عقول الطلاب المبهورة والعاجزة عن المقاومة. ففي الجامعة التي درستُ فيها أخذتُ كثيراً من الدروس في التاريخ ووجدتُ المحاضرة الأميركية معادية بحدة وتطرف لسياسات بلادها، من دون أن تذكر أي حسنات وإيجابيات لها. أخذنا دروساً عديدة عن حرب فيتنام والمآسي التي حدثت بها، وشاهدنا الوثائقي الذي يظهر فيه وزير الدفاع، روبرت مكنمارا، دامع العينين متحسراً على بعض قراراته. وجهة نظر قد تكون صحيحة لكنها تنسى الجانب الآخر من العملية، وهي أن الولايات المتحدة قد شكلت وجه العالم الحديث الذي نعيش فيه بالقوة أحياناً والدبلوماسية أحياناً أخرى، ولعبت دوراً حاسماً بمنع اندلاع حروب عالمية جديدة منذ أكثر من 70 عاماً.

فقد قضتْ على النازية والشيوعية والفاشية والقاعدة، وساندت المسلمين في البوسنة والكويت وقتلت أخطر ثلاثة إرهابيين في العصر الحديث؛ بن لادن وسليماني والبغدادي. كل هذه الأخطار كانت ستغير وجه العالم اليوم لو لم تُكافَح ويتمُّ القضاء عليها بفعل هذه القوة. ولكن من الصعب أن تطرح نقاشاً حراً في كليات تحقن الطلاب بوجهات نظر تحولها إلى حقائق مسلم بها. وبالتأكيد لأميركا جوانبها المظلمة الداخلية من العنصرية المشرعة في القرن الماضي والأخطاء الكارثية في العراق وأفغانستان. ولكن من المهم أن النقاش الموضوعي القائم على الحقائق وليس العواطف يدفع إلى مزيد من الموضوعية في الحكم.

والشيء ذاته يحدث في استهداف العلاقة بين دول الخليج وواشنطن ووصفها بـ«البترودولار»، على الرغم أنها أسهمت في استقرار منطقة ملتهبة سياسياً، ولعبت دوراً محورياً في ازدهار الاقتصاد العالمي بالعقود الأخيرة. ولأول مرة عرفت في محاضرة أن العبودية ما زالت مستمرة في الخليج، ولكن المحاضر كان يقصد العمالة المنزلية! ولكن اختيار مصطلح «العبودية» يداعب المخيلة الأميركية ويرسخ الفكرة المطلوبة بطريقة أسرع.

ولا تتوقع أن تصل ذيول هذه الآيديولوجيا الفكرية إلى تخصصات تقنية عملية، مثل الإنتاج الإعلامي ولكني كنتُ مخطئاً. من بين المناهج التي رغبتُ بدراستها تاريخ الميديا الأميركية، ولكن الإحساس بلذة الاكتشاف والتعرف على ضخامة هذه الميديا تلاشى سريعاً. المحاضرات أصبحت جلسات زرع العقيدة اليسارية أو ما يسمى الآن «اليقظة» (Wokisim) في العقول والأفئدة. فقد تحولت الدروس إلى محاكمات ونبش للأفكار والإيحاءات العنصرية المستترة في ثنايا المقالات والوثائقيات والأفلام والمسلسلات. بعضها صحيح إلا أنها ترتكز أيضاً على قراءات مبالغ بها تحركها البرانويا ومهجوسة بالحس المؤامراتي الشرير أكثر من الحقائق. ومن الغرائب أيضاً ما سمعته في درس لأستاذ شديد اليسارية، يهدف إلى فهم حركات الاحتجاج واتباع أساليبها الصحيحة لها. مادة عن العدالة الاجتماعية تحولت إلى مدخل إلى التثوير!

في كلية الاقتصاد كان الوضع مختلفاً، ولأول مرة نسمع عن مفكرين اقتصاديين كبار، مثل فريدريك حايك، ومليتون فريدمان، وتوماس سويل. السبب لأن الكلية مشهورة بإيمانها بمبدأ السوق الحرة، وكفّ يد الحكومة عن التدخل بالاقتصاد، وضد الحد الأدنى للأجور، وكل هذه الأفكار معارضة للعقيدة اليسارية المتطرفة. ولكن الكلية تعرضت لهجوم عنيف مؤخراً بسبب نهجها الفكري، وتمَّ التشكيك بأموال المتبرعين لها والهدف هو أيضاً إخضاعها لعقيدة فكرية.

وبسبب طغيان مثل هذه الآيديولوجيا المغلقة الحادة تعرض كثير من المفكرين والصحافيين والكتاب إلى الاستهداف والتضييق، وحرموا حرفياً من إقامة محاضرات مفتوحة. ولا تتوقع أن شيئاً مثل هذا يحدث في الولايات المتحدة، ولكن تشهد بين فترة وأخرى أعمال عنف وحرقاً من قبل طلاب بجامعات شهيرة بعد الإعلان عن استضافة شخصيات ذات توجهات فكرية مختلفة عن الآيديولوجيا الفكرية السائدة.

وبالطبع تمتد هذه الأفكار لتصل إلى عالمنا، وهناك من يدعو لها بصراحة، سواء إيمانها بها أو لأهداف شخصية بحثاً عن شهرة أو شعبية، وليس غريباً أن تستغل أكثر القضايا الإنسانية عدالة بحثاً عن المال والنجومية أو المناصب السياسية. وبعد أن يتم استثمارها وتنتهي الحفلة يبدأون بتدخين السيجار الفاخر على جثث الأطفال المطمورة تحت الركام.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مدخل إلى التثوير مدخل إلى التثوير



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يعلن عن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل عودة كل رهينة

GMT 14:17 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادين نجيم تكشف عن سبب غيابها عن الأعمال المصرية

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف

GMT 08:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

تنسيق الأوشحة الملونة بطرق عصرية جذابة

GMT 09:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات أوشحة متنوعة موضة خريف وشتاء 2024-2025

GMT 06:33 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صهينة كرة القدم!
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab