بقلم - جمعة بوكليب
إننا، ككتاب، لا نستطيع تغيير العالم وقوانينه من خلال الكتابة وهذه حقيقة. إلا أننا في الوقت ذاته، ليس بمقدورنا مطلقاً التوقف عن الحلم بعالم أفضل، والتذكير دوماً بقدرتنا كبشر على إلحاق الهزيمة بالشرّ، والتشبث بالأمل في سعينا الدائم نحو تحقيق هدفنا الإنساني النبيل، في العيش في عالم أرضي يسوده السلام والإخاء.
لكنني هنا سأخالف العادة، ولن أكتب مقالة ترحيب بالعام الجديد 2024، وهذه التفاصيل.
الغرض من التفاصيل في نشرات الأخبار والبيانات هو التوضيح بكشف المخبأ، وما لم يذكر. لكن الوضوح في عالم اليوم، شئنا أم أبينا، عُملة نادرة. ولا أعتقد أن الكثيرين يخالفونني في ذلك. وفي رأيي، أن ما نقرأه أو نسمعه أو نشاهده، تحت بند التفاصيل، في حقيقة الأمر، وفي أغلب الأحيان، في حاجة مُلحّة إلى تفاصيل تكشف غموضه.
وهذا لا علاقة له بما كتبته أعلاه، كونه قراراً أُتخذ في لحظات قليلة، وتحت تأثير انفعال شديد، يقترب من حدود الغضب، ومبتعداً عن حدود المنطق، وحدث مباشرة بعد مشاهدة نشرة إخبارية في قناة تلفزيونية عربية، تتحدث عن مقتل صحافي فلسطيني آخر، يعمل مصوراً، ضمن كوادر فريقها الإعلامي في قطاع غزة، أوكلت إليه مهمة توثيق الإبادة الجماعية ضد سكان القطاع، التي تنقل مباشرة على الهواء، لحظة بلحظة، منذ قرابة شهرين وأزيد، وما زالت مستمرة.
تفصيل الخبر يقول إن المصوّر القتيل، رغم جروحه، كان من الممكن أن يعيش، لولا منع القوات الإسرائيلية سيارات الإسعاف من الوصول إليه، ونقله إلى أقرب مستشفى.
وأن يخالف امرؤ عادةً من عاداته، فليس بالأمر الذي يستحق التهويل، ولا يهم إلا صاحبه. العادات نحن من يصنعها، ونحن أيضاً من يركنها، أو يستبدل بها أخرى. بعضها يتم بسهولة شديدة، ومن دون إعلان. وأخرى بصعوبة. الأمر يعتمد على الظروف المحيطة والعزيمة. والعادة التي صنعتها لنفسي، وحوطت بها عنقي، تنتمي للفئة الأولى. وكانت مجرد محاولة منّي، طوال سنوات، للتشبث بالأمل، وإقناعه بمواصلة البقاء مقيماً في قلبي، وعدم التخلي عنّي. والإغواء هو الوسيلة إلى تحقيق ذلك، أي من خلال الترحيب بالعام الجديد، والدعاء إلى الله أن يكون عاماً خالياً من الحروب والقتل والدمار والأوبئة، في عالم يزداد وحشية كل يوم. تلك المحاولة السنوية اليائسة هي أقرب ما تكون إلى أمل إبليس في دخول الجنّة. لكنني، على أي حال، لست الحالم الوحيد، وفي هذا عزاء.
في نهاية كل عام ميلادي، واقتراب حلول عام جديد، أشعر أنني بقدر تقدمي في العمر وخسارتي الشخصية عاماً آخر من عمري، أحس، في الوقت نفسه، بنوع من السعادة، كوني استطعت الخروج من سم الخيّاط، والنجاة بحياتي من مثالب وشرور عام مضى، وتمكنت، بما يشبه المعجزة، من الإفلات من فخاخ الموت المنصوبة في كل الطرقات وفي كل الأوقات. وأتمنّى في قرارة نفسي ألا يتخلى عنّي حسن الحظ ذلك في العام الجديد. ولا أذيع سرّاً بقولي إنه كلما تقدم امرؤٌ في العمر ازداد رغبة والتصاقاً بالحياة. ولا أعرف سبباً يدعو شخصاً عاقلاً يزداد التصاقاً ورغبةً في البقاء حيّاً، في عالم معلّق على قرن ثور، لا يعرف استقراراً، ولا ينشد سلاماً.
ورغم علمي بذلك، إلا أنني سنوياً أحرص على كتابة ونشر مقالة في هذا الموقع أو غيره، ترحّب بالعام الجديد، ومن خلالها، أنتهز الفرصة لأهنئ القرّاء ممن يحرصون على متابعة وقراءة ما أنشر من مقالات، ومتمنّياً من كل قلبي، لهم وللبشرية جمعاء، عاماً جديداً وسعيداً، ملؤه السلام والحب. وأحرص كذلك على كتابة وإرسال بطاقات التهاني إلى أصدقائي بكل الوسائل المتاحة. وحين أنتهي من ذلك الواجب الاجتماعي السنوي، أبدأ العام الجديد بمتابعة ورصد ما تنقله وسائل الإعلام الدولية من آخر ما استجد من حروب وكوارث في العالم، أو تطورات ما ورثناه منها من العام الماضي!
العالم الذي نعرفه ونعيش ونموت فيه، للأسف الشديد، لا يسير بالأمنيات الطيبة وبالدعاء والصلوات. بل تحكمه قوانين القوة والصراع، وتسيّره مصالح اقتصادية. والمصالح تتغير وتتجدد بمرور الوقت، مما يزيد في حدّة التنافس وشدة الصراع، إما لأجل حماية تلك المصالح أو التوسع فيها وزيادة الاستحواذ.
دور الأمنيات الطيبة والدعاء والصلوات أنها، في ذلك الخضم الهائل من الصراع الدولي المتواصل، تجعل الحياة ممكنة، وتمدنا بحيوية وطاقة روحية تساعدنا على مقاومة ما يجابهنا من شرور بصبر، وما يعترض طريقنا من آلام وأحزان، بعزم وتصميم على مواصلة حب الحياة بدلاً من الاستسلام للموت.
كل عام وأنتم بخير وسلام.