المفاجأة الكبرى التي لم يتوقعها العالم ولم يحسب لها حساب أن تتواصل الحرب على غزة لأشهر طويلة، دون ظهور مؤشر على وقت تقريبي لانتهائها، حتى طرفاها المباشران إسرائيل و«حماس»، لم يستعدا لخوضها إلا بوصفها حرباً دورية، من تلك الحروب التي وقعت بينهما منذ استيلاء «حماس» على السلطة في غزة.
حركة «حماس» لم تتوقع النتائج المذهلة وغير المتخيلة لعملية «طوفان الأقصى»، وإسرائيل لم تتوقع أن حربها على غزة ستكبدها ما كبدتها من خسائر بفعل طول أمدها، وكذلك بفعل المقاومة العنيدة التي واجهتها، ونظراً لعدم توقع ما حدث من كلا الجانبين، ذهب كلٌّ منهما إلى وضع أهداف حدٍّ أعلى.
«حماس» من جانبها قدمت العملية الناجحة «طوفان الأقصى» على أنَّها محطة استراتيجية تقود إلى النصر الحتمي.
وإسرائيل رأت الزلزال الذي هزَّ أركانها مجرد «ساعة غفلة» تجري معالجتها باستخدام ترسانتها العسكرية الضخمة في حملة انتقامية تأديبية، واستناداً إلى سابقةِ قُدرتها على تدمير أجزاء كبيرة من مباني غزة ومنشآتها في أيام معدودات، قدرت أن زيادة الجرعة هذه المرة ستحسم الأمر سريعاً، ذلك أغرى نتنياهو على طرح أهداف الحد الأعلى، والتي دأب على وصفها «بالنصر المطلق».
مجريات الحرب منذ أيامها الأولى، وحتى أيامنا هذه أنتجت تطورات لم تكن محسوبة سلفاً، منها مثلاً وقوف المنطقة على حافة حرب إقليمية ما أجبر ثلاث دول أوروبية في حلف «الناتو» على الانخراط فيها تحت تبرير منعها، ذلك حين تصدت للمسيّرات والصواريخ الإيرانية وهي في طريقها إلى إسرائيل، ومنها مثول الدولة العبرية المحمية أميركياً وغربياً أمام محكمة العدل الدولية، وكذلك اضطرار أميركا إلى خوض معارك مجلس الأمن عارية عن دعم حلفائها، ما أجبرها على استخدام «الفيتو» أربع مرات.
وكذلك دخول الحرب، وخصوصاً مشاهد فظاعات إسرائيل فيها، إلى كل بيت في العالم؛ ما أنتج ولأول مرة في التاريخ انتفاضات شعبية عالمية ضدها، وآخر ما حرر في هذا الأمر المظاهرات الطلابية في أميركا ذاتها.
ذلك كله، وهذا غيض من فيض كما يقال، جعل من نصر نتنياهو المطلق، وفق مواصفاته وشروطه، أمراً مستحيلاً؛ إذ بدا واضحاً أنه نصرٌ ممنوع دولياً؛ ذلك لأن صاحبه غرق في طوفان الإدانة الشاملة له ولحربه، ما يجعل من احتلاله غزة بكاملها وتخليصه للرهائن حتى لو تم ذلك، وهذا صعب للغاية، لا يجسد نصراً مطلقاً ولا حتى نسبياً. غير أن أمراً ربما يكون الأكثر تحدياً لنتنياهو أظهرته هذه الحرب وهو إجماع العالم كله على أن النزاع في الشرق الأوسط واشتعالاته الخطرة على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي لا ينهيه إلا قيام دولة فلسطينية.
إذن، وبالقرائن الدامغة الموضوعية والمشاهدة والمجسمة، فإن النصر المطلق غير ممكن عملياً، ذلك إذا ما قيس بنتائجه الاستراتيجية وليس بمساحات القتل والتدمير التي حدثت في غزة وفي أي مكان آخر وصلت إليه الآلة العسكرية الإسرائيلية.
ومثلما لم يعد النصر المطلق ممكناً، فإن النصر الحتمي الذي بشّرت به «حماس» هو ممنوع كذلك إقليمياً ودولياً، فمن زاوية «الوعد الحق» الذي لم يتوقف عند ردع الأطماع الإسرائيلية في غزة والضفة والقدس، والذي تطور في الرواية إلى الانتصار على إسرائيل بفعل حتمية انهيارها تحت الضربات القوية وتفككها الداخلي فهذا ليس فقط ممنوعاً، وإنما لم يعد متاحاً الاستمرار في الحديث عنه؛ إذ انتقل الحديث منه وعنه إلى حديث حول شروط الاعتراف بإسرائيل وكيفيته.
الحقيقة أن التطورات الميدانية والإقليمية والدولية ذاهبة إلى محاولة جديدة لاكتشاف إمكانيات تسوية عنوانها التقدم من جديد نحو حل الدولتين، قد لا نشهد تطورات مقنعة تحدد آليات إقامتها، وقد تؤثر مواسم الانتخابات الأميركية والإسرائيلية سلباً حد إضعاف زخمها، إلا أن ما أضحى مؤكداً أن ما طرح مَن وعد بانتصار مطلق يقابله انتصار حتمي صار وراء الظهر، غير أن الذهاب إلى محاولة جديدة للتسوية، وإن كان خيار العالم كله بمن في ذلك الفلسطينيون جميعاً، هو التسويات، فهذا غير مضمون بصورة حتمية.
هذا هو حال الشرق الأوسط برماله المتحركة ومفاجآته غير المحسوبة، وهذا هو حال العالم المنخرط في حربين كبيرتين متزامنتين في الجغرافيتين التوأم أوروبا والشرق الأوسط.
الصورة واضحة على صعيد الخيارات المعلنة، ولكنها غير ذلك على صعيد التسويات.