بقلم - سام منسى
سُئل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، في مقابلة مع التلفزيون الرسمي الإيراني أن يضع علامة من صفر إلى مائة تؤشر إلى مدى تحكمه في سياسة إيران الخارجية، فجاء جوابه مفاجئاً، إذ قال صفر. إذا افترضنا أن إجابة ظريف صادقة، فإنها تؤكد المؤكد لجهة أن سياسة إيران الخارجية والاستراتيجية يرسمها «الحرس الثوري» الإيراني بقيادة ولي الفقيه علي خامنئي، وهم من خارج المجموعة المنتخبة من الشعب، بالتحديد قادة «الحرس الثوري». وإذا افترضنا أنها مناورة من صاحب البسمة العريضة والظريفة، فهي تأتي من باب التحايل للقول بأنَّ الإصلاحيين يتراجعون، وأنَّهم مهددون بأن يقذف بهم خارج السلطة، ليتسلم الأمر المتشددون فيتحكموا كلياً بالقرار الإيراني.
تبرز أهمية هذا الكلام مع ارتفاع وتيرة محاولات أميركا لتحفيز إيران على معاودة التفاوض، وتلويحها بليونة بشأن رفع بعض العقوبات، أو تخفيفها، مع استمرار الضبابية والغموض حول مضمون وشكل العودة إلى الاتفاق ومصير العقوبات. في المقابل، لا تزال إيران تؤكد بلسان أكثر من مسؤول أن لا عودة إلى التفاوض، ووقف رفع نسبة تخصيب اليورانيوم، قبل رفع العقوبات.
وسط هذا الدوران في حلقة مفرغة، وقّعت إيران مع الصين اتفاقية الخمسة وعشرين عاماً، وأجاد الزميل عبد الرحمن الراشد عندما وصفها بأنها تشمل كل مناحي إدارة البلاد من بناء الأسلحة إلى جمع القمامة. وهذا يعني أن النظام الشرق أوسطي هو على عتبة متغيرات استراتيجية عميقة تهدد جدياً المصالح الغربية، وهذا ما يجب أن يحدو الإدارة الأميركية الجديدة إلى إعادة مقاربتها للمسألة الإيرانية التي باتت الهم الرئيس لواشنطن في الإقليم.
ويبدو أن هناك ثلاثَ مقاربات مختلفة للعلاقات الأميركية مع إيران:
المقاربة الأولى تصب في صالح إيران، وتنطلق من أنها اللاعب الأقوى في المنطقة، وينبغي التفاهم معها على هذا الأساس، وعدم تجاهل المكاسب التي حققتها. لا يتم الكلام علناً عن هذه المقاربة لأسباب كثيرة؛ أبرزها الغضب المتوقع من إسرائيل والحلفاء العرب. وفي سياق هذه المقاربة، ووفق أسلوب الدبلوماسية المكوكية، يأتي التوافق على عقد اجتماع للأطراف الموقعة على الاتفاق النووي غداً الثلاثاء في فيينا من أجل أن «تحدد بشكل واضح إجراءات رفع العقوبات الأميركية وتطبيق الاتفاق النووي».
المقاربة الثانية أكثر من يعبر عنها هي المواقف الأوروبية من إيران، التي يغلب عليها التردد والغموض من جهة، ومن جهة ثانية تباين المصالح بين الدول الأوروبية وسياساتها والضغوط التي تفرضها العلاقات مع واشنطن. وتحاول إدارة جو بايدن مواجهة الارتباك الأوروبي عبر أفضل السبل لحماية مصالح حيوية أوروبية تتشابك حيناً مع الاقتصاد الصيني وتتعارض معه أحياناً. هذه اللاسياسة تصب في النهاية بصالح إيران أيضاً.
المقاربة الثالثة مبنية على مواجهة إيران، وفرض الضغوطات القصوى عليها، وتراوحت من سياسة إدارة باراك أوباما الرخوة إلى العقوبات القصوى مع دونالد ترمب إلى سياسة الإدارة الحالية التي لا نزال نتلمس معالمها، ويبدو أنها تعتمد الليونة والدبلوماسية بالتوازي مع مواصلة الضغوط والعقوبات مع فتح الباب أمام إمكانية الحد منها أو تخفيضها. حتى الآن لم تنجح هذه المقاربة في ليّ الذراع الإيرانية ما يجعلها تدور على نفسها.
ويبقى أن جميع هذه المقاربات تحمل ثقوباً تفلت منها إيران، أبرزها المواقف الروسية والصينية وحتى الأوروبية. وفي لغة أوضح، إن استعمال موسكو وبكين لإيران في تنافسهما وخلافاتهما وتصفية الحسابات مع واشنطن، سمح لطهران بالإفلات من عصا العقوبات إلى حد كبير، ولم تدرك واشنطن سوى متأخرة أن الصين نجحت في تعويم الاقتصاد الإيراني، ولو جزئياً، ولكن بما يكفي لإسقاط مفاعيل العقوبات القصوى. هذا الأمر أتاح لإيران التمدد خارج جوارها المباشر لتكون شريكاً في مستقبل قريب أو متوسط في صناعة القرارات بشأن المشكلات العالقة في الشرق الأوسط تحديداً.
ويمكن القول إنَّ المؤشرات باتت أكثر وضوحاً بشأن احتمال الانخراط في حرب باردة ثانية، إنما في نظام ثنائي القطبين طرفاه الولايات المتحدة والصين. هذا ما يدفع واشنطن إلى محاولة عرقلة خطط تمدد بكين عبر الحزام الاقتصادي على طريق الحرير ومواجهته بل محاصرته بحزام ديمقراطي.
على الرغم من كل هذه التطورات والمستجدات، ينبغي التمييز بين روسيا والصين، لا سيما بالنسبة لعلاقة موسكو ومواقفها من أدوار إيران في المنطقة عبر وكلائها، إذ لا تزال الصين غير منخرطة في ممارسات حلفاء إيران على غرار موسكو، والمثال الأوضح لذلك هو الحرب في سوريا. وهنا أيضاً، لم تدرك واشنطن سوى متأخرة عواقب سياسة موسكو الابتزازية والمكشوفة باستعمال الورقة الإيرانية من خلال دعمها لتحسين موقعها التفاوضي مع إدارة الرئيس بايدن، وهذا ما تكشفه تصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف الأخيرة، لا سيما عندما قال في جلسة لنادي «فالداي» خاصة بالشرق الأوسط، «آمل فعلاً أن تتراجع شدة العداء لإيران، ويفسح المجال للفكر السليم»، هذا إضافة إلى محاولة روسيا الشكلية حتى الآن التقارب مع فرنسا وألمانيا بشأن إيران.
هل بات تعثر وفشل المقاربات الثلاث يقضي بطرح مقاربة رابعة تسمح بتحرير الدبلوماسية الأميركية من مشكلة إيران آخذة بالحسبان الثقوب والشقوق التي سمحت لإيران بأن تفلت حتى الآن من الضغوطات عليها منذ بداية الثورة في عام 1979؟
إن الكباش الأميركي الإيراني لن يفلح من دون مواجهة صريحة مع من يحمي طهران ويمدها بشريان الإفلات من عواقب ممارساتها، وهذا لا يعني رفع الضغوطات عنها، بل الاقتناع بالتوازي أن المفتاح الاستراتيجي في مقاربة تحديات الشرق الأوسط بعامة وإيران بخاصة، يكمن أيضاً في اعتماد سياسة حاسمة وحازمة مع الصين وروسيا دبلوماسياً واقتصادياً. الحزم لا يعني الحرب الباردة أو المواجهة العسكرية، بقدر ما هو توجيه البوصلة، وتحديد الأهداف ومصالح الأطراف كافة. إن إيران منتفخة ومتغطرسة ليست في مصلحة أحد بمن فيهم حماتها، كما أن احتواء التمدد الإيراني اليوم أقل تكلفة منه غداً.
إن موسكو وبكين الساعيتين إلى تثبيت أقدامهما في المنطقة تحتاجان أيضاً كما واشنطن إلى الاستقرار، ولا استقرار في الشرق الأوسط، لا سيما في المشرق، من دون وقف التدخلات الإيرانية. كما لا استقرار مستداماً في الخليج واستمرار تدفق الإمدادات النفطية بدون وقف التدخلات الإيرانية، ولا حل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني من دون وقف التدخلات الإيرانية، ولا مكافحة ناجعة ومستدامة للإرهاب والتطرف ونمو الجماعات الخارجة عن الدولة كالفطر بدون وقف التدخلات الإيرانية.
وما ينطبق على موسكو وبكين ينبغي اعتماده مع الحلفاء الأوروبيين لإقناعهم أن الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني المنشود والتخلص من هاجس تهديد «داعش» وغيره من الإرهابيين لن يتحققا بدون معالجة التدخل والتوسع الإيراني.
إن أي تهاون أميركي بهذا الشأن، لا سيما بعد الاتفاق على معاودة المفاوضات، سيوجه ضربة قاصمة لشعار بايدن «أميركا عادت» (America is Back)، ولن ينفع تحالف الديمقراطيات ولن يتسنى لأميركا احتواء الصين، كما سبق لها في الماضي احتواء الاتحاد السوفياتي، لأن الفارق بين الإمبراطوريتين شاسع. فما صح ونجح مع موسكو لا حظوظ كبرى له مع بكين.